وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصحح لهم شيئاً من هذا حتى يباعوا ويحصل عتقهم بطريق شرعي
ثم جعلوا يتسببون إلى رضاه ويتحملون عليه بالشفاعات وهو مصر لا يعبأ بجلالة إخطارهم ولا يخشى اتسامه بعداوتهم، فرفعوا الأمر إلى السلطان فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه
واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه، وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي
وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبال بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر فاكترى حميراً أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام. فلم يبعد إلا قليلاً نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي، وسار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به. واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك
فأرتاع السلطان فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع به غضب الأمة، وأطلق له أن يأمر بما شاء وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه، ولبس طيلسان العلماء كما يلصق الريش على حجر في صورة الطائر
ورجع الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم وضرب لذلك أجلاً بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل القاهرة ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي
وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه فلم يعبأ الشيخ به. فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما لا يملك ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه مادام هذا الرأي لا يمر في منافعه ولا في شهواته ولا في أطماعه كالذين