ثم أقبل على رسول الله فقال:(قم الحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك).
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بجرة شاكلتها فقمصت برسول الله فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضياعة بنت عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت:(يا آل عامر ولا عامر لي! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟)
فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بحرة، وثلاثة أعانوه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض ثم جلس على صدره، ثم علقوا وجوههم لطما، فقال رسول الله:
(اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء.)
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عمن كان في الموسم فقالوا:
(جاءنا فتى من قريش ثم حدث أنه أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به معنا إلى بلادنا.)
فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: (يا بني عامر: هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من تطلب؟
فوالذي نفس فلان بيده، ما تقولها إسماعيلي قط؟ ألا إنها الحق؛ فأين كان رأيكم؟.
هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنة وذو المجاز، التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلى جانب مناظر البيع والشراء والمفاخرة والإنشاد، مشهداً من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذى لصاحب الشريعة الإسلامية صلى الله عليه وسلم. وابتلعت تلك الأصوات بضجيجها وما كانت تعج به من حوادث، صوت الدعوة الإسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الصخب والزحام؛ فلقد مكث الرسول بمكة مستخفياً ثلاث سنين، ثم أعلن في الرابعة ودعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام، (يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحداً ينصره أو