والأدب المطلع على حقائق الحياة - متمسكاً بالشكل الشعري الوحيد الذي وصل إليه من المتقدمين، وهو القصيدة المصرعة الموحدة الوزن والقافية غير الموحدة الفكرة، فلم يمنح الأدب العربي شكلاً ولا موضوعاً لم يكن من قبله؛ وعاش المتنبي ومات طامحاً إلى الملك وتضريب الأعناق، ساخطا على تبريزه في مضمار الأدب الذي كان يحسد عليه ويكاد له من أجله، ولم يكن شيء من ذلك مما يخطر لشكسبير على بال
وجلى واضح أن هذه الفروق بين الشاعرين العظيمين إنما ترجع إلى العوامل الاجتماعية والسياسية، التي كانت تحيط بكل منهما وتكون نفسيته وعقليته، وإلى هذه العوامل ذاتها يرجع التباين الشديد بين أبي نؤاس وأبي تمام والبحتري وأبن العميد وبديع الزمان من جهة، وبين ملتون وبيرون وشلي وكيتس وجيبون وكارليل وماكولي من جهة أخرى، وهو تباين يجعل من المحال تشبيه واحد من الفريق الأول بواحد من الفريق الثاني، في سيرته في الحياة أو فلسفته الفكرية أو مذهبه الأدبي، وإن كان من أسهل الأمور استخراج العديد من أوجه الاختلاف والتضاد.
هذا الاختلاف في البيئتين الجغرافية والظروف التاريخية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، والجبلة والتقاليد والمنازع، وهذا التباين بين الأدبين في المشرب والأسلوب والموضوع وشخصيات الأدباء وسيرهم، كل ذلك يجعل الموازنة بين الأدبين من أمتع الدراسات الأدبية وأحفلها بالدروس والعبر، وادعاها إلى استخلاص المبادئ والنظريات الأدبية، وإلى التفطن إلى العوامل المؤثرة في الآداب ونتائجها، وقديماً قيل: وبضدها تتميز الأشياء، ولو كان الأدبان شديدي التشابه وليدي ظروف متقاربة وعوامل مؤثرة متماثلة، لما كان في الموازنة بينهما كبير طائل، ولا كان تتبع ظواهرهما يستحق طويل عناء، ولأشبها أن يكونا أدبا واحدا مشتركا بين أمتين، موزعا بين لسانين.