أخرى، يوجدان حسرة في القلب وضيقا في الصدر وشعورا بخيبة الأمل يسود له المزاج وتنقبض له النفس، وهذا هو الذي كان في المبدأ ثم جعل يتطور مع الزمن حتى زالت العقيدة في خيرية الحياة زوالاً تاماً وحلت محلها عقيدة تناقضها تمام المناقضة، وهي أن الإنسان شقي تعس في جميع أدوار حياته، إذ هو في حياته الأولى فريسة للمصائب والنكبات والمخاطر والأمراض، وهو قاصر عن الاستحواز التام على جميع المتع والمسرات، وإذا حاز شيئاً منها فالأجل قصير جداً يستوجب الشفقة والرثاء، فإذا ترك هذه الحياة كان أكثر تعاسة وبؤساً، إذ هو ينتقل في الأجسام المختلفة من وضيع إلى اوضع، غير عارف بمصيره ولا متحقق من حظه، لأن كل مرحلة من مراحل حياته المتعددة تقذف به إلى المرحلة التي تليها قذفاً دون إرادة منه ولا اختيار، وفوق ذلك فهو مسئول في كل مرحلة من هذه المراحل التناسخية أمام الآلهة مسئولية قاسية على ما اقترف أو ما هوى فيه قسر إرادته من آثام وسيئات
وإذاً فالحياة شر، والعالم شر، وهذا الوجود المادي كله شر، وكله باطل، والحقيقة هي غيره، والاعتقاد بأن هذا العالم المادي هو متناثرات أجزاء (براجاباتي) - كما كان سائدا في الزمن السابق - جريمة من الجرائم، لأن الآلهة حق، وهذا العالم المادي باطل، ولا يمكن أن يتكون الباطل من أجزاء الحق، وإنما الصحيح هو أن أجزاء الحقيقة الإلهية حالة في هذا العالم المادي الباطل، ولا وسيلة للخلوص من شر هذا العالم إلا استخلاص الحقيقة من الباطل، ففي جانبنا الاستخلاص لا يتحقق إلا بالتخلي عن المادة، وفي جانب الآلهة، حسب الإنسان أن يفهم أن وراء كل مظهر من هذه المظاهر حقيقة هي الجوهر الصحيح في هذا المظهر. وهذه القاعدة عندهم تتناول حتى (براهما) رأس الآلهة نفسه، فهم يعتقدون أن الحقيقة في (براهما) هي (براهمان) أي الكائن اللا شخصي أو الموجود المنزه عن الجرمية، والحال حلولا غير مادي في جميع عناصر الكون، وأن إدراكه على هذه الصفة هو المحقق الأوحد للنجاة من التناسخ المؤلم ولضمان الخلود، ولكن - الإدراك لا يتيسر إلا بهجر المادة وتجنب جميع مظاهر الحية العملية وتسليم النفس للتأمل العميق المنتهي إلى الغيبوبة والامتزاج بالله والفناء في ذاته