كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه، هي دنياه التي يعيش فيها، ناسُها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحابته وخلانه، وعلماؤها رواته، وأدباؤها سُمَّاره؛ فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمة عن العلماء والرواة فماً لفم، فنشأ ذلك نشأة السلف. يرى رأيهم، ويفكر معهم، ويتحدث بلغتهم، وتستخفه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومناهم
وإذا كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغشيان المجالس يتحدث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم - فإن حظه من العامية المصرية كان قليلا، وكان عليه أن يسألني أحياناً أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مثل مما يسمع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحياناً ويقول:(فلتكن أنت لي قاموس العامية. . .)
وإذا كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما - فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وأخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكن مصطفى كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمة على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا قريب.
ولم تُجْدِ على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلا أو أقل من القليل، فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعاً قوياً، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، ولو أنك كنت تسمعه أحياناً يأسف على هجرها ويمني نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ؛ وهيهات أن يجد الرافعي فراغا من وقته.
هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل هذا على الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.
وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله ثم لا يلبث أن يتناول كتاباً مما بين يديه ويقول لمحدثه:(تعال نقرأ. . .) وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي