للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إلى ركن منيع، فخلق له منصب التحرير في وزارة المعارف فضمن له به رغد العيش ووفرة الإنتاج حتى اختار الله له ما عنده

كان المنفلوطي أديباً موهوباً حظ الطبع في أدبه أكثر من حظ الصنعة؛ لأن الصنعة لا تخلق أدباً مبتكراً ولا أديباً ممتازاً ولا طريقة مستقلة؛ والنثر الفني كان على عهده لوناً حائلاً من أدب القاضي الفاضل، أو أثراً ماثلاً لفن ابن خلدون؛ يتمثل الأول قوياً في طبقة المويلحي وحفني ناصف، ويظهر الثاني ضعيفاً في طبقة قاسم أمين ولطفي السيد؛ ولا يستطيع ناقد أن يقول إن أسلوبه كان مضروباً على أحد القالبين؛ إنما كان أسلوب المنفلوطي في عصره كأسلوب ابن خلدون في عصره بديعاً أنشأه الطبع القوي على غير مثال؛ والفرق أن بلاغة (النظرات) مرجعها إلى القريحة، وبلاغة (المقدمة) مرجعها إلى العبقرية.

أَعلم أن المنفلوطي تأثر في القديم بابن المقفع وابن العميد، وفي الحديث بجبران ونعيمة، ولكن هذا التأثر دخل في فنه دخول الإلهام والإيحاء، لا دخول التقليد والاحتذاء؛ فله من الأولين إشراق الديباجة وقوة النسج، وله من الآخرين جدة الموضوع وطرافة الفكرة، ولكنك لا تتذكر وأنت تقرأه أحداً من أولئك جميعاً.

عالج المنفلوطي الأقصوصة أول الناس وبلغ في إجادتها شأواً لا ينتظر من نشأة كنشأته في جيل كجيله. وأذكر أننا كنا نقرأ (غرفة الأحزان) و (اليتيم) وأمثالهما فنطرب للقصة على سذاجتها أكثر مما نطرب للأسلوب على روعته. وسر الذيوع في أدب المنفلوطي ظهوره على فترة من الأدب اللباب، ومفاجأته الناس بهذا القصص الرائع الذي يصف الألم ويمثل العيوب، في أسلوب طلى وسياق مطرد ولفظ مختار. أما صفة الخلود فيه فمأتيةٌ من جهتين: ضعف الأداة وضيق الثقافة. فأما ضعف الأداة فلأن المنفلوطي لم يكن عالماً بلغته ولا بصيراً بأدبها، لذلك تجد في تعبيره الخطأ والفضول ووضع اللفظ في غير موضعه. وأما ضيق الثقافة فلأنه لم يتوفر على تحصيل علوم الشرق، ولم يتصل اتصالاً مباشراً بعلوم الغرب؛ لذلك تلمح في تفكيره السطحية والسذاجة والإحالة. فإذا قدر الله لأدب المنفلوطي أن يفقد سحره وخطره في أطوار المستقبل، فإن تاريخ الأدب الحديث سيقصر عليه فصلاً من فصوله يجعله في النثر بمنزلة البارودي في الشعر. وكفى بذلك عرفان

<<  <  ج:
ص:  >  >>