بيت الله بشراً خاضعاً، أما أن تكون تزوير إله. . . بألف عبد، وألف ثوب فلا! إنه لا يجتمع ميراث النبوة التي جاءت بالتوحيد والمساواة، ببقايا الجاهلية التي قامت على الشرك والتمييز بين الناس إلا محي أحدهما. . . فانظر هل محا باطل حقاً؟
قال الراوي: وتردد الباشا هنيهة يفكر. ثم أبعد أعوانه وترجل ودخل المسجد منفرداً، وكان الشيخ جالساً على حصير وقد وضعت فوقه حشية، وكان مادّاً رجله فسمعته يقول:
. . . والمرء إذا خاف الله، وصدق في مخافته. خافه كل شيء، لأنه لا يرى كبيراً إلا صغره عنده أن الله أكبر. . . الله أكبر. إن لهذه سراً إلهياً، ولكن المسلمين استعجموا فهم لا يرددون منها إلا حروفها فارغة من المعنى، وما فرض الله على المسلم أن يقولها كل يوم (٨٥) مرة أقل ما يقولهاويسمعها من المنارة ثلاثين مرة. . . إلا ليعلم أنه لا كبير في الدنيا وأن من كان مع الله لم يبال شيئاً: لا الملك ولا المرض ولا الوحش، فلو أن المسلم عرف معنى هذه الكلمة وهو يقولها ما عرف الذل ولا الجبن ولا الكسل.
قال رجل من طرف الحلقة:
فإن قتله الملك يا سيدي الشيخ، أو أماته المرض؟
فقال الشيخ: سبحان الله! وهل يهاب المسلم القتل؟ أو يبغض الموت؟ إن الموت شديد لأنه انقطاع اللذات، وخسران الدنيا، ولكنه لا يكون بهذا المعنى إلا عند الكافر الذي يعيش في الدنيا، ويستمتع بملاذها؛ أما من كان يتهيأ فيها للعيشة الخالدة ويقيم فيها كالمستعد للسفر، ويرقب ساعته كما يرقب المسافر ساعة القطار، ويراه حين يمضي ليلقى ربه، كالآيب إلى وطنه حين يذهب ليلقى أهله وصحبه. . . من كان هذا شأنه لا يرى في الموت موتاً، وإنما يرى فيه ولادة جديدة، وابتداء حياة، وقد جاء في الحديث: إن أفضل الشهداء رجل يقول كلمة حق عند إمام جائر فيقتله بها. . .
وكان الباشا قد وقف على الحلقة متنفّجاً، مصعراً خدّه، شامخاً بأنفه، فنظر إليه الشيخ رحمه الله فلم يتغيّر ولم يبد عليه أنه رأى فيه أكثر من رجل، وأشار إليه أن اجلس كما كان يفعل بغيره، فلم يتمالك الباشا أن جلس. . . ونظر في الحاضرين يقلب فيهم بصره، يفتش فيه عن شيء أضاعه فيهم، عن الخضوع والإكبار اللذين تعوّد أن يراهما حوله دائماً، ينتظر أن يقوموا له، وأن يقفوا بين يديه صفاً، ولم يدر أن القوم كانوا في غير هذا، لم يدر أن