لا تنتهي الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
وذلك ثوابه الجنة، والجنة لا تكون بالتشهي والأمل، ولكن بالجد والعمل. ولو أن تلميذاً أمضى عامه في لعبه ولهوه، ثم تمنى النجاح، أكان ينجح؟ ولو أن صياداً ألقى بندقيته فلم يضرب بها ورمى شبكة فلم ينصبها، ثم حلم بالقنيصة أكانت أحلامه تعدو في أثر الغزال حتى تأتي به مكتوفاً؟ أم كانت السمكة تأتيه وحدها وعلى ظهرها الملح والفلفل تقول له: كلني؟. .
قال رجل: ولكن القلوب قست يا سيدي الشيخ، فما علاجها؟
قال: إن الشيطان لا يأتي إلا من إشعاره الكمال، فأشعر نفسك النقص، وذكرهَا في الصحة المرض، وفي الحياة الموت. ولقد أدركنا من مشايخنا من إذا قسا قلبه أم المستشفى أو قصد المقبرة، فخوف نفسه المرض وذكرها الموت. والمؤمن لا يزال بخير ما زال بين الخوف والرجاء، فإن لم يخف أو لم يرج فقد هوى. . . ولقد سمعنا إن منهم من كان يدني يده من المصباح ويقول: يا نفس عن لم تصبري على هذا فكيف ويحك تصبرين على نار جهنم؟ وإن المؤمن ما ثارت في نفسه شهوة، إلى أطفأها بأنهار الجنة، أو أحرقها بنار جهنم، فاستراح منها. . .
وما الإنسان لولا العقل؟ وكيف يكون العقل إن لم يكن معه الإيمان؟ إنه لا يكون إذن إلا كما قالوا: أوّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة. . . وللسلطان سكرة، فمن أسكره سلطانه وعزته على الناس، فليذكر هوانه على الله، وأن الله أهلك أشد الملوك: النمرود بأضعف الخلق: البعوض
فيا من أصله من التراب، لا تنس أن نهايتك إلى التراب!
وكان الباشا يشعر، والشيخ يتكلم، كأنه كان محبوساً في صندوق، ثم فتح عينيه فنشق الهواء الطلق، أو كأنه كان في ظلمة فاحمة، فطلع الشيخ عليه شمساً نيرة، فتضاءل حتى جلس على ركبتيه، ورأى نفسه دون هؤلاء كلهم، لأنهم ألصق منه بالشيخ وأدنى إليه، ولم يعد يزعجه مرأى الشيخ وهو ماد رجله. . . بل كان يراه الغريق ويراها خشبة النجاة، وكان يبصرها عالية كجناح النسر المحلق، ثم لم يعد يرى فيها شيئاً، لقد استحال الشيخ في نظره إلى فكرة. . . لم يعد يرى فيه إلا الحقيقة تمثلت إنساناً.