للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

معك الحدود التي ترسمها لهم في علاقتك بهم، وتفرضها عليهم، فأيقن أنهم لا يكونون معك في حال من الأحوال إلا على ما تحب وترضى، وقد يسخطون عليك في سريرتهم ويكتمونك ما ينطوون عليه لك من المقت والحقد، ولكن هذا لا قيمة له، فأن الخوف من عصفك بهم يظل يقيك أذاهم. وماذا يضيرك أن يجدوا ويضطغنوا إذا كانوا لا يجرءون أن يكشفوا لك عن هذه الصفحة المستورة؟؟ وإنك لتعلم أنهم ينافقون ويبدون غير ما يبطنون، ولكن الحيلة في ذلك قليلة، والشأن شأنهم لا شأنك، وعلى أنه ما داعي الغيظ والنقمة؟ وما موجب الكراهية والمقت؟ وما الحاجة إلى النفاق؟ إن كل ما تبغيه منهم أن يجنبوا الإساءة إليك كما تجنبها إليهم، فإذا بدءوك بذلك فانهم الظالمون، والشاعر القديم يقول:

لا تطمعوا أن تهينونا، ونكرمَكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم، وتؤذونا!

فإذا كانوا يأبون إلا أن ينتحلوا الحق في الإساءة بلا مسوغ، فذنبهم على جنبهم. وتالله ما أسرع ما يرتد الناس إلى الواجب وحسن الأدب إذا رأوا منك تمرداً على سوء الخلق وقلة الحياء!! كان كبير من الكبراء يدخل حيث أكون، فيمر بي وكأني قطعة أثاث، وكنت ألقاه كثيراً، فحملت هذا في أول الأمر على الذهول أو نحوه، ولكنه تكرر وباخ وتبينت فيه سخافة الكبرياء والنفخة الكذابة، فقلت: أكيل له بصاعه، وصرت أتعمد أن أدخل عليه وهو مع الناس فأحييهم وأهمله، وأتخطاه بيدي وعيني كأنه ليس هناك، ولم يكن له غير هذه النفخة، فلما خرقت القربة المنفوخة، لم يبق شيء، فلم يطق صبراً، وأقبل يوماً فهممت أن أشيح بوجهي عنه، فإذا هو يطوقني بذراعيه!!

وليست هذه المبادئ التي يُلقنها التلاميذ في المدارس، ولكنها هي المبادئ التي ألقنها ابني، وأحرص على أن يفهمها ويعمل بها، وقليل من رياضة النفس عليها تكفيه، لا مثلي، فقد نشأت على غير ذلك واعتدت خلافه، فخيب الناس والدنيا أملي في كل ناحية، وأحدثوا لي رجات نفسية أتلفت أعصابي. وكنت أعتقد مثلاً أن في وسعي أن أسير في الحياة من غير أن أسيء إلى أحد أو أخشى أن يسيء إلي أحدٌ، وأن عليَّ أن أعطي الناس حقوقهم في صراحة وبأخلاص، وأن لي أن أثق أن سيعطيني الناس حقي ولا يقصرون في أدائه إلي كاملاً؛ فإذا الأمر على خلاف ذلك ونقيضه. أنا أكف أذاي عن الناس، ولكنهم هم لا يعنون بمثل ذلك، حتى لصرت مضطراً أن أحتال لاتقاء أذى الناس، وأنا أؤدي للغير حقه غير

<<  <  ج:
ص:  >  >>