ولقد آنست هذه المشاعر في كثير من المنشآت الاجتماعية التاريخية التي أتيحت لي زيارتها خلال تجوالي في العواصم الأوربية وآنستها هذا العام بنوع خاص خلال رحلة قمت بها في بلاد التيرول النمسوية: فذكرت أننا في مصر لا نعرف اليوم أمثال هذه المنشآت، ليس فقط لأن أحداث الزمن لم تبق منها على شيء، بل لأننا أيضاً فقدنا في عصور الانحطاط خلة الاستمرار، فلا نعرف في مصر منشأة تجارية أو اجتماعية أو فندقاً أو مقهى أو غيرها من المنشآت المماثلة تخطت قرناً محافظة على قديمها، متصلة بحديثها، وهو ما يعتبر من الأمور العادية في العواصم الأوربية حيث يرجع كثير من هذه المنشآت إلى أحقاب وقرون. ولقد عرفنا هذه المنشآت في العصور الوسطى، فكان للقاهرة فنادق ومقاهٍ، تخطت دولاً وعصوراً وهي تقوم بمهمتها الاجتماعية؛ وإنه ليحضرني الآن منها مثلٌ هو فندق مسرور أو خان (مسرور) الذي يحدثنا عنه المقريزي في غير موضع، والذي لبث عصوراً مهبط الواردين إلى القاهرة من كل صوب يتناقل السياح اسمه في جميع الأقطار الإسلامية، والذي تذكره قصص ألف ليلة وليلة في مواضع مختلفة ترجع إلى عصور مختلفة كأنه علم على القاهرة، وكانت القاهرة أيام السلاطين تموج بأمثال هذه المنشآت المعمرة من ربط وفنادق وخانات ووكالات شهيرة دثر معظمها أيام العصر التركي. وفي خطط المقريزي بيانات شائقة عن هذه المنشآت التي لعبت مدى عصور دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية المصرية.
أما اليوم فإن القاهرة التي تغص بالآثار والصروح التاريخية العامة لا تعرف شيئاً من هذه المنشآت الخاصة التي يسبغ عليها القديم جلاله، والتي تساير الحياة الاجتماعية في عصورها ومراحلها المتعاقبة
مما يلفت نظر السائح في مدينة أنزبروك عاصمة التيرول فندق (النسر الذهبي) وهو صرح متواضع يقوم على صف من الحنايا المعقودة على الطراز القوطي؛ ولكن هذا الصرح المتواضع يقوم حيث هو، ويؤدي نفس مهمته في إيواء السياح وإطعامهم منذ نحو خمسمائة عام، وفي مدينة انزبروك القديمة التي تمتاز بدروبها الضيقة وأبنيتها القوطية العتيقة، عدة من هذه الفنادق والمطاعم القديمة التي طوت أجيالاً عديدة من حياتها؛ ولكن (النسر الذهبي) يمتاز عنها جميعاً بتاريخه المجيد؛ فقد حفلت غرفه الضيقة وأبهاؤه