ولولا أنّ عبقرّيةً منتخيةً قويّة عند المتنبي قد أنكرت الجرْيَ على أساليب القوم أو بعض أساليبهم،
إذا كان مَدْحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ ... أكلُّ فصيح قال شعراً متّيم؟
وأرادت أن تحرر ربّها لأقام (الكندي) دهرَه من تُبّاع (الطائي) يأخذ بأخذه فلا يجاريه، ويكدّ روحه في أن يصوغَ كما يصوغُ فلا يساويه؛ وحبيبٌ في صَوْغِهِ وغَوْصِهِ لا يلحق. (أراد المتنبي أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه) وقّلما ضارع كبيرٌ مقلِّدٌ عظيماً مقلَّدا
ولم يستطع المتنبي - على تبريزه وارتقائه - أن يزحزح حبيباً عن مكانته، وما قدر إلا أن يقعد في عرش الشعر معه. وليس بقليل أن يقتطع من ملك حبيب ما اقتطع، ويختلج من رعاياه من اختلج. فالناس بعدهما في كل زمان حزبان: متنبيّ، وتماميّ، لكن جماعة (أحمد) أكثر عدداً، و (للحبيب) شيعة به مغرمون
وقد قالوا: أبو تمام عند الخاصة أشعر، والمتنبي أشعر عند العامة. وما أنصف المتنبي هؤلاء القائلون. إن في (السيفيات والكافوريات والعضديات) وغيرهن لآيات بينات، وإن فيهن لسحرا. وإذا كان لأبي تمام عشر قصائد علا بهن علوّاً كبيراً، فان للمتنبي قدّامهن خمسين قصيدة أو أكثر من ذلك. وقد يقول قائل - وفي قوله حق - إن طول الأجل وقصره قد أعطيا ومنعا، فلم يعمَّر (حبيب) ما عمِّر (أحمد)
وكان شيوخ ابن خلدون يرون - كما قال - أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء - الله أكبر! - لأنهما لم يجريا على أساليب العرب
وكلام هؤلاء الشيوخ (شفاهم الله، وشفى ناقل قولهم معهم) ليس بشيء إلا شيئاً لا يُعبأ به؛ فأساليب العرب متنوعة مختلفة، وليس هناك أسلوب أوحد؛ ولكل قبيل طريقة، وللبدوي بلاغة، وللحضري بلاغة، وللإقليم أو المكان، وللخليقة والمزاج أثرٌ وسلطان؛ ولكل عصر أو قَرن زيّ ولحن. و (أحسنُ الكلام ما شاكل الزمان) والدنيا في تبدّل مستمر، (وأحوال العالم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر) ولكل نابغة نهجٌ معلوم
فتنكّبُ المتنبي عما تنكّب عنه، وسلوكه السبيل الذي سلكه ما ضاراه بل ظاهراه في إبداعه