كبرياء، لأنها شعرت بأنها تخالف غيرها من الناس، ولكنها نظرت لبول نظرة أخرى فهي بوجه عام تكره الرجال، على أنه رأته من نوع آخر، سريعا خفيفا رقيقا قد يكون أحيانا آية في اللطف ويتغلب عليه الحزن أحيانا، وهو ذكي يعرف الشيء الكثير وقد طاف الموت مرة بعائلته، ورفعه في عينيها إلى السماء ما حصل عليه من المعلومات الضئيلة. .) أحبته الفتاة وأخذ الفتى ينفتح قلبه للحب، ولكنه كان حبا غريبا خفيا ممزوجا بكل ما فيها من مشاعر الدين والتقوى، وأما حب الفتى فكان فطريا ممزوجاً بتلك العاطفة التي يمتزج بها الحب كثيراً في نفس فتى تحول قريبا من دور الصبي إلى دور الرجل، وقد رأت فيه الفتاة مثلا أعلى للرجل المتصف بأكمل الصفات، أما الشاب ذو الشفة المرتعشة بحرارة الشهوة فكان ينظر إلى الحب من ناحية أخرى. لم يلبث الفتى أن مل هذا الحب، وأراد حبا أكثر إنسانية وأقل تطلعا إلى الملائكة، ووجده عند كلارا التي كان يعمل معها في محل واحد.
تعلق الفتى بها وتعلقت به، وتجاذب النفسان تلك العاطفة تجاذبا، نقرأه بدقائقه في هذه الرواية، ولكن شيئاً واحداً كان يحول بين توافق هذين القلبين كما كان يحول بين توافق بول ومريم. الواقع ان هناك حبا آخر عنيفا محطما كان يعمل دائما على التفريق، وهذا الحب المحطم هو حب الام لولدها، فبول كان شديد التعلق بأمه وأمه شديدة التعلق به والحنو عليه، فلما أن طمحت نفسه إلى حب آخر لم يجد إلى التخلص سبيلا، إنه لم يشعر بذلك لأن هذا الحب كان يجتذبه بخيوط دقيقة خفية لا يراها ولا يستطيع إلا أن يظل فريسة، فعندما تحول حب بول عن مريم كانت الأم تجتذبه، وعندما تحول حبه عن كلارا كانت الأم تجتذبه.
ولم تكن الأم تعمل على إبعاده ولا هي تسعى لذلك سعيا ظاهرا، بل هو تود سعادته وخيره، وتود أن يصل إلى كل ما يرضيه، وإنما نفوذها القوي عليه وحمايتها الشديدة له وعنايتها به منذ صغره وإلى أن مرضت مرضها الأخير وإلى أن لفظت آخر أنفاسها أمامه، هذا النفوذ هو الذي حطمه في صباه وقد يحطمه في رجولته.
فموضوع الرواية الحقيقي قد لا يكون حياة بول وانتقاله إلى الرجولة وتفتح عينيه إلى سر الحياة، وإنما هو: نفوذ الأم وعطفها الذي قد يكون أشد خطراً على حياة الشاب من جميع الأخطار.