للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

استطاعا مرة أو مرتين أن يتلاقيا على غير رقبة، وعلى غير موعد أيضا، فلما نمت عيناها بمكنون قلبها، وافتضح السر لديهم، كان سؤال فيه إعنات، وجواب فيه حرج، فلم يشفع لها غير الدموع!

لقد مر بعد ذلك سنتان أو يزيد، وموقف صاحبنا لم يتغير، وتأبى التقاليد أن تتزحزح من موقفها لتفسح الطريق لزوجين يريدان أن يتمتعا بسعادة العيش قبل فوات الأوان والشباب، وشعر أن فؤاده يهرم. وأن ذلك الحب الذي كان يعمر قلبه أبتدأ يتحول إلى ذكرى حزينة بائسة، وصور الماضي الجميل التي كانت ترف ناضرة أمام عينيه تذوى وتتعرى من فتنة الحياة، والمستقبل الباسم الذي صوره لنفسه من أطياف الأمل تطمس رواءه آلام الحاضر العابس، ويئس وقنع من غرامه الأول والأخير بالذكرى يستبعدها ليعيش فيها لحظات. لقد كان يكره التقاليد لأنها صورة الماضي البالية، ولكنه عاد لا يؤمن إلا بالماضي، ولا يرضى إلا أن يعيش فيه. .!

أراد أن يروض نفسه على السلوان، وأن يدفن ذلك الماضي في أعماق النسيان، ولكن نارا بين ضلوعه كانت تشعل هذه الذكرى كلما هم أن يطفئها، وقلبه بين جنبيه لا يفتر ينبض، وريشة في الخيال تمحو صورا وتبعث صورا.

أيقن أن سلطان التقاليد أقوى من سلطانه، فكيف يحتال على هذه التقاليد حتى تسلس له قيادها، ويملي فيها إرادته؟ لو كان يدري متى تأذن له أن يحتضن خطيبته إليه لاستطاع أن يحمل نفسه على الصبر، ولكنها تؤجل دائما إلى الغد، والغد لا يتحقق.

لقد رأى أختها أمس؛ نهض صدرها، وتحير في خديها ماء الشباب؛ لقد أصبحت هي أيضا عروسا، أصبحت تنظر نظرتها. . ولو فتش فيها وراء هاتين العينين لظهر من خلفهما في مرآة الأمل الزوج الذي أبدعت تخيله وأجادت رسمه. . .

وخطر لها خاطر: لو أن شابا تقدم غدا إلى حسين أفندي يطلب يد (سعاد) ورأى فيه ما يحمله على قبوله، فماذا يكون من أمره؟ ستأبى التقاليد ولا شك أن يزوجها قبل زفاف أختها، وأنه لحريص على التقاليد، وسيأبى عليه أيضا بر الوالد أن يفلت منه هذا الخاطب، وجه التدبير إذن أن يعمل على تعجيل أمر حامد ومنيرة ليخلي الطريق لسعاد، فينتهي من تقاليد ليبدأ تقاليد غيرها. .

<<  <  ج:
ص:  >  >>