إن الحياة العلمية ليست إلا خدعة يتلهى بها أرباب القلوب. وهل يخفي عليك ما يعانيه رجل مثلي حين يعود وحيداً إلى منزله بلا أنيس ولا رفيق؟ هل يعزيه حينذاك أن يتذكر انه كان منذ لحظات يعاقر الفكر والرأي وهو يلقي محاضرته على جمهور من العلماء والأدباء؟
ليتك تراني وأنا ادخل إلى غرفتي شارد اللب فأزيح الستائر عن النوافذ ثم أطفئ المصباح لأقف وجهاً إلى وجه مع ظلام بغداد. ويا رحمة الله من ظلام بغداد في لياليها الطوال!
ولكن ما الذي يدعوني إلى معانقة الظلام في بغداد؟ لا اعرف ولكن يخيل أليّ أن الظلام يؤنسني بعض الإيناس، لأنه يوهمني أني في فترة من الزمن تأنس فيها القلوب بالقلوب، وتسكن الأرواح إلى الأرواح. وربما كان الظلام في غرفتي فرصة طيبة أتبين فيها بصيص النور في منزل قريب أو بعيد فأتمثل أخيلة النجوى والعتاب، وأتوهم ضجيج المرح في ليالي الوصال
أما بعد فهذا غروب اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان وهذا مكاني على المائدة في المطعم الذي تخيرته بشارع الرشيد، وهذه أطياف ترد على القلب، من أحباب القلب، أطياف من مصر الجديدة والزمالك، تلك البقاع التي لم تر فيها النجوم قلباً مثل قلبي، ولم تسدل ستائرها على هوى اعنف من هواي. . . وليقل من شاء ما شاء!
واسأل جاري على المائدة: هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: سنعرف ذلك بعد ساعة أو ساعتين
وأخرج فأتصفح الوجوه في شارع الرشيد بلا نفع ولا عناء، ثم أميل على الشرطي أسأله:
هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: لم تثبت، ولكن المحكمة تنتظر برقية من النجف
فأدمدم: برقية من النجف؟ وهل يسر من في النجف أن يفطر من في بغداد؟ إن كان الأمر لعلماء النجف فسيضيفون إلى الصوم يومين، ولولا أن يفضحهم الهلال لزادوا الصوم أسبوعين
واذهب إلى نادي المعارف لأسمر لحظات مع الزملاء من المدرسين فيفرحون بلقائي