وأودعه السجن. ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام واعتذر إليهم من قُتله، وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد. فقال لأبان بن الوليد البجلي وكان صديقا للكميت: أنظر ما ورد في صديقك، فقال عز عليّ والله ما به. ثم قام أبان فبعث إلى الكميت فأنذره فوجه إلى امرأته، ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه كما ذكر من تقدمه، وقال فيه: فأتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به، فقال: إني أخشى ألا ينفعك جوراي عنده، ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام، فقال: كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك، ففعل مسلمة وقال لابن أخيه: قد أتيتك بشرف الدهر، واعتقاد الصنيعة في مضر، وأخبره الخبر
فأجاره مسلمة بن هشام، وبلغ ذلك هشاماً فدعا به ثم قال: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: كلا ولكني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة، فانه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك. قال: أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني احتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريباً، وقد جزع عليه جزعاً شديداً، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا ابعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق من أجاره
فاصبح هشام على عادته متطلعاً من قصره إلى القبر. فقال: من هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر. فقال: يجار من كان إلا الكميت، فإنه لا جوار له، فقيل: فإنه الكميت قال: يحضر أعنف إحضار، فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين، استجار بقبر أبينا وقد مات، ومات حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم اقبل على الكميت فقال له: يا كميت أنت القائل:
وإنْ لا تقولوا غيرها تتعرَّفوا ... نواصيها تردى بنا وهي شُزبُ
فقال: لا والله ولا أتان من أتن الحجاز وحشية، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أما بعد - فإني كنت أتدهدى في غمرة، وأعوم في بحر غواية، أخنى على خطلها، واستفزني وهلها، فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعاً عن الحق، جائراً عن القصد، أقول الباطل ضلالاً، وأفوه بالبهتان وبالاً، هذا مقام العائذ مبصر الهدى، ورافض