(ولكن. . . ولكنه مع ذلك لم يغضب، ولم يعتب، بل اعتذر إلي وألح في الاعتذار. . . وصدقته حين ابتسم. . .!)
وأسرها الابراشي باشا في نفسه؛ فلما كان الموسم التالي نظم الرافعي قصيدته وأرسل بها إلى القصر، ورصفت حروفها مشكولة في مطبعة دار الكتب - كما جرت العادة - ثم أرسلت بحروفها مجموعة إلى الجريدة المختارة، ومعها قصيدة أخرى مرصوفة مشكولة مزينة، من نظم الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك. ونشرت القصيدتان جنباً لجنب في جريدة واحدة، وعلى نظام واحد، وكلاهما في مدح الملك، فما يفرق بينهما في الشكل إلا توقيع الشاعرين في ذيل الكلام
وقرأ الرافعي قصيدة منافسه الجديد، فثار وزمجر، وقال لمن حوله:(أترون كيف يصنع بي؟ إنه يريد أن ينال مني. (يريد الأبراشي) أهذا شعر يقرن إلى شعري؟ أيراني وإياه على سواء؟ أيحسب أن الأدباء سيخدعهم هذا الزخرف في الطباعة فيجعلون صاحبه شاعراً من طبقتي أو يجعلونني شاعراً من طبقته؟ أيراني من الهوان بمنزلة الذي يرضى عن هذا العبث؟ أفيريد أن يمهد لصاحبه حتى يخلعني عن مرتبة (شاعر الملك) ليجعله مكاني؟ أم يراه أهلاً ليقاسمني المنزلة والمقدار عند صاحب التاج. . .)
ومضى الرافعي يومه يفكر ويقدر، وما كان إلا في مثل حال الرجل الذي يعود إلى داره التي يملك فإذا له فيها شريك يحتلها بقوة ساعده لا بحقه؛ فما يجد له حيلة في إجلائه عن الدار إلا أن يرفع أمره إلى القاضي. . . وكان القاضي عند الرافعي في هذه القضية هو الرأي الأدبي العام، فرفع أمره إليه. . .
وتحدث بنيته إلى صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، فأوسع له صفحات من مجلته ليبدأ الحملة على الأستاذ عبد الله عفيفي في مقالات عنيفة صارخة بعنوان: على السفود!
وما كان الرافعي يجهل أنه يتناول موضوعاً دقيقاً حين يعرض لنقد هذا الشاعر؛ فإنه ليعلم علم اليقين أن هذه المقالات سيكون لها صدى بعيد، تصل به إلى آذان لا يسره أن تعلم من كاتب هذه المقالات، فتنكر وأخفى نفسه. . .