ودفء الهواء، لتدب الحياة فيها وتنتعش. . . لذلك كان الشتاء أكبر أعدائه، إذ كان يقاسيه كما تقاسيه الشجرة التي نفضت أوراقها، وبدت خلاله نصف ميتة. . . وكان الصقيع الذي يغطي وجه الأرض يقضه ويزعجه، ويثلج يديه وقدميه، فتسقط الكرات وتجرحه السكاكين، ولكنهه مع ذاك يبسم ويهش، متشبهاً بالصرصر المذكور في قصة مريم الأفرنسية، والذي يشدو ويرقص جوعان من. . . البرد!! أو من الجوع. . . أو منهما معاً!! وكان لسذاجة قلبه، وقناعته، يقاسي في سكون وصمت. فلم يفكر مرة في كيفية توزيع الثروة بين الناس، ولا في علة هذا التفاوت الكبير بين أقدار البشر، وكلهم من آدم، وآدم من تراب. . . لا. . . لم يفكر برنابا الطيب في شيء من هذا ولا ذاك، بل كان مؤمناً ساذج الإيمان، وكان يعتقد أن الخير الذي فاته في هذه الدنيا لابد مواتيه في الآخرة، وأن سيئات هذه الحياة ستحتسب في صحيفته حسنات يوم يوفى للناس حسابهم. ولم يكن برنابا من هؤلاء اللبقين الألبة الذين باعوا أنفسهم لسيد الأبالسة، بل كان يؤمن بالله ولا يكفره، ويلهج لسانه دائماً باسمه، وكان يحيا حياة أمينة طاهرة كلها تقوى وعفة، ولم تحدثه نفسه مرة أن يمد عينيه إلى ما متع الله به جاره من زوجة جميلة حلوة مفتان، مع أنه لم تكن له زوجة حلال. . . وكان يؤمن بخطر المرأة على شباب الرجل وعنفوانه، وكانت له أسوة بما حدث من ذلك لشمشون كما هو مشهور مأثور
وهكذا لم يك برنابا بهيمياً ولا شهوانياً، بل هو لم يفكر مرة في هذه اللذة الدنسة التي تستعبد أمثاله من المشعبذين، بيد أنه إن سلم من ذاك، فلقد كانت تأسر لبه الخمر، وكان يرى فيها منجاة من فتنة النساء والوقوع في كيدهن؛ ولم يكن برنابا مدمناً مع ذاك، وإن حب الخمر وصبا إليها من كل قلبه، لاسيما إذا كان الفصل شتاء والطقس بارداً زمهريراً. . . فإذا استثنينا شغفه بالخمر وجدناه رجلاً صالحاً يخاف الله ويتبتل إليه، وتملأ قلبه محبة العذراء، مريم الطاهرة البتول، التي كان يخبت لها ويصفيها عبادته، ويركع بين يدي صورتها كلما دخل كنيسة فيصلي هذه الصلاة:(مولاتي! أبتهل إليك أن تباركي حياتي في هذه الدار حتى يتأذن الله فيقبضني إليه، فإذا فعل، فاشفعي لي عنده أن يفيء علي من نعيم الخلد. آمين!)
وانطلق في أمسية يذرع الطرقات غب مطر وابل حزيناً واجماً كاسف البال، وتحت إبطه كراه ومزقة البساط وفيها سكاكينه، وكل همه أن يجد خاناً يؤويه فيقضي فيه ليله على