ثلاثمائة وخمسين نسمة من الوجود. لزمت عزلتي لم أساعد أحداً من المغرقين بل ظللت أنظر، وإذا بصوت كصوت أفعى ينساب إلى أذني فالتفت ورأيت مزعجي وقد انعكس ضوء القمر على وجهه وهو يتمتم كالسكارى وعينه الذابلة الزرقاء تحملق وهو يقول: لا نفترق حتى في هذا المكان
جرى الدم حاراً في عروقي وعزمت على أن أرميه في البحر الذي كان يغمرنا سريعاً، ولكن خيل إليّ أن القمر يرمقني كما ترمقني عين السماء ولم أتجاسر على أن أقتله. ولما كنت لا أستطيع البقاء كي أموت مع المغرقين قذفت بنفسي نحو صخرة وقد طاردني حوت فأرهبته، وبعد برهة وجيزة كان لديه القدر الكافي لإشباع نهمه سمعت دوياً فصيحات يأس ممتزجة مزعجة، بأس ثلاثمائة وخمسين قلباً سكنت في لحظة. قلت في نفسي وقد داخلني سرور عميق إن صوته لا محالة بين أصواتهم وقد افترقنا. وما وصلت الشاطئ حتى اضطجعت للنوم
وفي صباح اليوم الثاني انفتحت عيناي على أرض أجمل من أحلام الشباب وقد ابتسمت الشمس وأشرقت على أنهار فضية، ومالت الأشجار بثمار أرجوانية عسجدية، وتلألأ كالماس الندي في أرض تحلت بأزهار ذات أريج عبق ممتع، وقد حلقت عشرات الألوف من الطير بأجنحة براقة امتزجت ألوان قزح بها وطارت من على النبات والأشجار وملأت الجو تغريداً من سرورها. البحر يزأر تحت قدمي لا أثر في جبينه اللامع لتأكل سالف؛ أما السماء فكانت تدفئ عروقي بأشعتها الذهبية التي لم تعترضها سحب. استيقظت نشيطاً مرحاً وجست خلال هذا المكان الجديد الذي اهتديت إليه فتسلقت تلاً ووجدت أنني في جزيرة صغيرة لا أثر لرجل فيها، فارتاح قلبي وصحت طرباً لما رأيت أني سأكون وحيداً مرة أخرى، ولكني لم أكد أنحدر من التل وأصل إلى نهايته حتى لمحت رجلاً يقترب مني. نظرت إليه فارتاب، قلبي ثم دنا مني فإذا بالغيض المضطهد يقف أمامي بعد أن نجا من الغرق! لقد عاد بتمتمته وعينه البراقة، وما لبث أن طوقني بذراعيه فشعرت بأن أفعى تحتضنني وقال بصوت أجس خشن: مرحى مرحى! سنبقى معاً أيها الصديق
فنظرت إليه وأنا مقطب الجبين لم أتلفظ بكلمة، وكان بجانب الشاطئ غار كبير فقصيدته ودخلت فيه وهو يتبعني قائلاً: سنعيش في هناء هنا لا نفترق إلى الأبد. فارتعشت شفتي