يشهد التمثيل أياماً في العام، مرة في الربيع حين يكون فصل التراجيديا، ومرة في الخريف حين يكون فصل الكوميديا. وكان يختلف إلى بعض الدور: إلى دار بيركليس مثلاً، ليسمع بعض السفسطائية، وليحاور أو ليستمتع بجوار هذه المرأة الجميلة زوج بيركليس. وكان ينفق ما تبقى من وقته، وهو أكثره من غير شك، متنقلا بفلسفته في شوارع أثينا، أو باحثاً عن نفسه في حمام أثينا وملاعب الرياضة فيها. وأنا واثق بان سقراط لو خير بين حياتنا الحلوة العذبة، وبين سجنه الثقيل وما تناول فيه من السم لآثر السجن والسم على هذه اللذات الطوال الثقال التي نتحملها نحن في فصل الشتاء.
أرأيت أن الصيف هو الفصل الذي يحسن فيه اللغو، وأن الشتاء هو الفصل الذي لا يحسن فيه إلا الجد، ولايمكن فيه إلا الجد، ولعلك تظن ان ما حدثتك به هو كل ما في الشتاء من جد، فُذد عن نفسك هذا الوهم، ففي الشتاء جد آخر مر كله، لا حلاوة فيه، فأنت توافقني على أن الزيارة والاستقبال، والاختلاف إلى المحاضرات، وشهود التمثيل والاستماع للمغنين والموقعين، كل ذلك يحتاج إلى نفقات، فثياب الشاي غير ثياب التمثيل، ولكن ماذا أريد أن أقول؟ ومالي أدخل بك في هذا الحديث الذي لا فكاهة فيه ولا متاع؟ أهذا كل ما يحمل إلينا الشتاء من الجد؟ كلا ففي الشتاء جد آخر، جد خصب حقاً، جد نافع حقاً، جد نعيش منه، ونلهو به، ولا يجني منه أصحابه إلا حياة كلها خشونة وشظف وحرمان، هو جد هؤلاء الفلاحين الذين يعملون في الأرض، لا يحفلون بالبرد ولا يحفل بهم البرد، وفي الشتاء جد آخر، جد يمزق القلوب، ويعذب النفوس، ويبعث اللوعة والأسى في أفئدة الذين يعرفون الرحمة واللين، ويذكرون حين يلهون إن في الأرض قوماً آخرين يعذبهم الجوع، ويلح عليهم البرد، فيقضون ليالي خير منها ظلمة القبور، في الشتاء هذا الجو المظلم القاتم، المرهق المحرق الذي تصوره اجمل تصوير وابلغه تلك الأغنية المشهورة أغنية الإحسان التي ما استطعت أن استقبل الشتاء منذ عرفتها دون أن اسمعها مرة ومرة:
هذا الشتاء يقبل، ومعه حاشيته الحزينة، إن الأشقياء ليألمون كثيراً في الشتاء، إن من الحق علينا أن نحميهم من هذا الشقاء، إن البرد لشديد في دورهم المقفرة!