الطبقة المفكرة فطغت على قلوبهم موجة إلحادية، ولم تعد عقولهم تسيغ أن يكون ثمة مدبر أعلى لهذا الكون.
فأما فريق العقيدة والدين فقد أقتنع بأن هذه النكبات ليست إلا إذلالاً للنفوس جزاء وفاقاً بما نزعت إليه من الإعتزاز بحكم العقل ونبذ العقائد وراء الظهور. وأما فريق الإلحاد فقد ارتأى أن اضطراب أوربا ينهض دليلاُ قوياً على فوضى الحياة وعبثها، وعلى رأس هؤلاء بيرون وهينيوشوبنهور.
فلسفته:
١ - العالم فكرة
يرى شوبنهور أن الوساطة الوحيدة بين الإنسان والعالم الخارجي هي الحواس والمشاعر، فأنت إذا رأيت شجرة انطبعت صورتها في ذهنك، وهذه الصورة إنما انتقلت عن طريق عدسة العين، فقد تكون مطابقة لحقيقتها الخارجية وقد لا تكون، وقل مثل ذلك في كل معلوماتك عن أجزاء الوجود، فالصورة التي كونهاذهنك عن هذه الدنيا هي فكرة خلقتها حواسك ولا يتحتم أن يكون لها حقيقة واقعة مطابقة لها وإذن فالإنسان كما يقولون دنيا نفسه، وأن في الوجود من الدنى بمقدار ما فيه من عقول بشرية.
يخلص شوبنهور من هذا بأن الواجب الأول هو دراسة العقل قبل البدء بدراسة المحسوسات، لأن في دراسة العقل المفتاح الذي نصل به إلى حقائق الوجود الخارجي.
٢ - العالم إرادة
يكاد يجمع الفلاسفة على أن كنه العقل وجوهره هما الشعور والفكر، إلا أن شوبنهور يرفض ذلك رفضاً، ويقول بأن الشعور إن هو إلا قشرة خارجية لعقولنا لا يعرف على وجه الدقة ما تحويه في باطنها، فهذا الغلاف المفكر يخفي وراءه إرادة لا شعورية، لا يخمد لها نشاط، ولا تنتهي لها رغبات وآمال، وهي التي تملك زمام الإنسان في كل حركاته وأعماله، أما هذا المنطق الذي نحتكم إليه في كثير من شئوننا، والذي يخيل إلينا أنه نابع من العقل الواعي، هو في الواقع ملجم بهذه الإرادة الباطنية، فنحن لا نريد الشيء لأن هناك من الأسباب المنطقية ما يدفعنا إلى ذلك، ولكننا نخلق الأسباب خلقاً إذا كنا نريده إرادة لا شعورية. فالأسباب نتيجة لا مقدمة!! بل نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا الزعم