التحليل النفسي، وبما تضمنته من وصف نفسية الجماعة، وبما فرقت بين العقل الواعي وبين العقل الباطن - حينما أبدى كل ذلك تطرق الشك في قيمة الفكرة، وأصبح الناس لا يرون للعقيدة نفس السلطان الذي كان لها فيما مضى، بل لقد ذهبت الكثرة من علماء النفس ووراءهم الجمهرة من سائر العلماء إلى أن الفكرة شيء والعمل شيء آخر
ويرجع الشك في قيمة الفكرة إلى أن علم النفس الحديث يرى أن الإنسان مسير أمام جملة من العوامل التي لا يحكمها العقل بل هي في الواقع مؤثرات ودوافع تدفع بالإنسان إلى أعمال أكثرها قد تحرر من سلطان التفكير القويم. وإنما يسير الإنسان عند هؤلاء الرغبة والعاطفة والمزاج قبل الفكرة والعقل والفلسفة. وقد كانت فلسفة الأخلاق تؤمن بأن لكل فكرة مسيراً تنتهجه، فهي لا تنتهي عند مجرد التفكير وإنما تمتد إلى العمل والتنفيذ. فالفكرة لها شطران من تعقل وسلوك، ولا يكون لها أثر خلقي حتى تنقلب إلى هذا السلوك. لكن علم النفس حل في تاريخ الفكر الحديث محل علم الخلاق، فباعد ما بين شطري الفكرة، وعالج الإحساس الضئيل مجرداً عن العمل، وباين ما بين العقيدة والسلوك. وقد أدى ذلك إلى ذلك التناكر الذي نشهده اليوم بين ظهرانينا.
وعلم النفس لا يستطيع أن يخلق لنا مثلا أعلى لأنه غير قادر على تثبيت قيم الأشياء. ذلك لأنه علم وصفي يسير في نطاق ضيق من التجارب التي تختلف على عقل الإنسان وحِسّه. ولأنه علم تجريبي، فقد عالج حالات شاذة أو غير شاذة من غير أن يقيم معايير يستطيع المرء أن يتخذها لنفسه غاية أو سبيلا. فحينما طغى علم النفس على فلسفة الأخلاق فَقَدَ العالم كثيراً من الغايات الفلسفية التي كان قد استقر على الإيمان بها. واستشرف قادة الفكر لحالة من الشك طافت بنفوسهم حتى أصبحوا يشكُّون في مبلغ عقائدهم هم أنفسهم.
وقد كان الفرد ضحية من ضحايا الدراسات النفسية، لأنه تضاءل ثم تضاءل أمام دراسة الجماعة حتى لم يعد له إلا المكان الأدنى. ومن العجز أن نطالب الديمقراطية بما نطالبها به من تقدير المسئولية إذا كانت قد أنكرت المدرسة الحديثة حدود الفرد هذا الإنكار. وإذن فالعبث بعينه هو أن نتهدّي بعلم النفس في سيرنا إلى المثل الأعلى؛ والعبث بعينه هو أن نحاول تأليف غاية نبيلة تتألف أصوله. فعلماء النفس يصفون حالات الجماعة ونفسية الجماهير بما يحكمها من عقلية الرعاع، وبما يشينها من العقل الباطن غير المفكر. وكان