القرن الثاني للهجرة أعني منذ عام ٨١٥م؛ مع أنه في خلال هذا الوقت أخذت حركة الزهد في الإسلام تصطبغ إلى حدٍ ما بصبغة جديدة. ولابد أن معنى صوفي - بفرض وجود الكلمة إذ ذاك - قد أصابه بعض التغيير. ويخيل إلي أن هذا اللقب الذي نحن بصدده الآن يعين نقطة انتقال من الزهد السني، وأنه - كما يقرر الجامي - قد أطلق أولاً على أبي هاشم الكوفي المتوفى قبل سنة ٨٠٠م الذي أسس (خانقاه) للصوفية في الرملة بفلسطين. ومهما يكن الأمر، فإن الفارق بين الزهد والتصوف (ذلك الفارق الذي هو على وجه العموم كالتفرقة بين الحياة الطهرية وبين طريق الكشف في التصوف الغربي في القرون الوسطى) أقول إن هذا الفارق قد أخذ في الظهور قبل انصرام العهد الأموي، وسرعان ما تقدم في صدر العصر العباسي تحت تأثير الأفكار الأجنبية وعلى الأخص الفلسفة اليونانية. ولندع الكلام عن مدى تطور هذه الحركة الأخيرة للكلام عنها في فرصة أخرى وسنتناول الآن في إيجاز أصل الصوفية كما تسمى عادة، والظاهرة الأولى للدوافع الخاصة التي قامت عليها
أما فيما يتعلق بأصلها فلسنا نستطيع أكثر من نقل الملاحظات التي قدم بها ابن خلدون لفصله عن الصوفية في مقدمة كتابه التاريخي الجليل حيث يقول:(إن هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف، فلما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوّفة)
من هذا يتضح لنا أن التصوف - إذا لم يكن في أصله تطوراً لحركة الزهد التي كان الحسن البصري ممثلها البارز كما رأينا - قد نشأ على كل حال من هذه الحركة وتفرع عنها. ولم يكن التصوف نظاماً تأملياً كهرطقة المعتزلة، ولكنه إيمان عملي وقاعدة للحياة، فيقول الجنيد:(ما أخذنا التصوف من القيل والقال ولكن من الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات)