في طرف من أطراف هذه القرية كان يجثم بيت صغير منفرد قائم على شفير الوادي. . . إذا أنت دخلته لم تجد فيه إلا طائفة من الأولاد يجلسون على حصير قد مات وفني وتقطعت أوصاله من قبل أن يولدوا. . . وشابا على حشية قد طعنها الزمان فنثر أحشائها. والشاب غض الاهاب، لدن العود، حديث السن، ولكن نظرة واحدة إلى عينيه تريك أنه قوي الإرادة، ماضي العزيمة، وأن له وقار شيخ في السبعين من عمره. . .
وبيد الشاب عصا طويلة يشير بها ويهزها فوق رءوس الصبية، وينال بها من أبشارهم، على حين يجيل فيهم نظرات مشتعلة يتطاير منها الشرر الأحمر، تلذع أفئدتهم كلذع العصا أجسامهم. . .
تلك هي مدرسة القرية، وهؤلاء هم تلاميذها؛ أما الأساتيذ فعقيل صاحب المدرسة، وزميله الشاب: كليب!
وكانت أمسية طلقة أراق عليها الربيع بهاءه ورواءه، فصرف كليب التلاميذ، ووقف على باب المدرسة - على عادته في كل مساء - ينظر إليهم وهم يقفزون من عتبتها، مفاريح بالنجاة من المعلم وعصاه الطويلة، وسحنته المنكفئة المقلوبة أبداً، مماريح يضحكون للحرية والجمال والانطلاق، يعدون إلى القرية عدواً. . . حتى إذا غيبتهم هذه الجدران في أطوائها، ولم يبق منهم في الرحبة أحد، وسكنت الحركة فيها وسكتت الضوضاء التي انبعثت من أفواههم الصغيرة، وحناجرهم الدقيقة الرنانة. . . زفر كليب (المعلم الشاب) زفرة أليمة اقتلعها من أعماق صدره، وألقى عصاه وولى وجهه شطر الصحارى البعيدة، يفتش فيها عن الطريق إلى أمنيته التي طالما جاشت في نفسه، وعاودته وكرت عليه، حتى أمست له فكرة لازمة وبات لا يعرف غيرها، ولا يفكر إلى فيها، ولا يعيش إلا لتحقيقها، وطالما حلم في نومه وفي يقظته أنه قد بلغ أمنيته، فتنعم بها ومرح في جناتها، ولكن الحلم يتصرم وتعود الحقيقة الواقعة بوجهها الكالح القبيح، فيرى أنه لم يصل إلى شيء
ولى وجهه شطر الصحارى، ولكنه لم ينظر إليها، وإنما جاز به خياله فيافيها المهلكة، وقفارها الواسعة، إلى تلك البلاد التي يسمع عنها ويتسقط أحاديثها، ويحمل لها في نفسه أجمل صورة تنفرج عنها مخيلة شاعر ملهم، أو مصور فنان، إلى البلاد التي يعرش فيها الياسمين، وينمو الآس، ويزهر التفاح والسفرجل، وتسيل الينابيع متحدرة من أعالي الجبال