مودته. ولا فرق عنده بين غنيهم وفقيرهم أو بين كبيرهم وصغيرهم، حتى الصبية كان يغمرهم بعطفه فيذهب أحيانا إلى جماعاتهم يتفرج على ألعابهم لحظة، ثم إذا هو بينهم طفل كبير. ولا عجب فقد كان قلبه الكبير مليئاً بمعاني الإنسانية في نسقها الأعلى. وتلك لعمري هي العظمة الحق التي تعمر قلوب بعض البشر فتسمو بهم عن بشريهم وهم بين الناس يعيشون كما يعيشون
وكان في لمحكمة كما كان في خارجها الرجل المتواضع العف يدخل وجيوبه منتفخة بأوراقه، وقبعته ثقيلة بما حوت، لا يعرف أبهة المظهر وقد سلم له الجوهر، ولا يدرى ما التطاول والتعاظم وقد عظم حتى صارت العظمة هي كما يفعل!
كان الصدق في الدفاع أول وسائله في الإقناع. وقد يتبين له أثناء دفاعه أن الحق قد ألبس عليه بالباطل فيترك القضية لأنه لا يستطيع أن يلائم بينها وبين طبعه، أو أن يرفعها إلى مستوى حماسته وصدق شعوره. على أنه ما كان ليفعل ذلك لو أنه استطاع. وكان المنطق السليم والإنصاف بعد ذلك أدواته ووسائله؛ يضاف إليهما الدراسة الدقيقة لما ينهض له، والإحاطة بجميع تفاصيله. هذا إلى ما امتاز به من صفاء الذهن صفاء يساعده على تبين الطريق إلى غايته في يسر ووضوح، حتى ما يلتوي عليه امرأ ويغرب عن ذهنه حادث
وعرف عنه فيما عرف الأناة حتى لقد كانت تغضب منه زوجه وترميه بالبلادة. وكثيراً ما تبرم صديقه هرندن وتململ لأناته. فانظر إلى إبراهام يسأله أن يأتيه بمبراة وسكين فإذا أحضرهما قال له: أن سلاح تلك المبراة أقصر وأحد ولعلك تظنها بذلك انفع من السكين إذ هي اسرع، ولكن أيتهما أبعد من الأخرى غوراً إذا نفذتا في جسم؟ ويقتنع صاحبه بعدها أن التأني في الأمور أبعد في سير الأمور غوراً، ولا يشتكي بعد من أنانه ويطيق معه صبراً!
وكان مما يهابه منه المحامون تهكمه، فهو يعمد في دفاعه أحياناً إلى التهكم اللاذع فيزلزل به قدمي خصمه حتى ليذهل عن رشده بين ما ينبعث من جوانب القاعة من الضحكات. . .
وكان إذا جاءه أحد الناس يطلب إليه المدافعة عنه استفهمه حتى يستقصي خبره، وهو على طيبة قلبه يقرأ في وجه محدثه إمارات الكذب إذا هم أن يكذب، فما يزال به حتى يرده إلى الصدق في مهارة دون أن يسيئه في شعوره! فهو وإن لم يك من الماكرين لا يقدر أحد أن يمكر به. فإذا جاء دور الأجر طلب إلى موكله أن يدفع ما يستطيع. فإن كان موكله مملقاً