إلى أن ردها خالد ابن الوليد إلى الطاعة، وكفرت عن ردتها بما بذلت من جهود في الفتوح، حتى إذا تم الفتح سكن بعضها الكوفة وبعضها البصرة، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة. وقد ظلت تميم في الإسلام وفيها من ألوان البداوة، ومن هذا النوع من البداوة ما بدا من نزعتهم الخارجية، فقد كثر الخوارج من تميم، وكان قطرىّ بن الفُجاءة وكثير ممن تبعه من الازارقة من قبيلة تميم.
وأنجبت تميم كثيرا من نوابغ الشعراء لا يعنوننا الآن، كما أنجبت كثيراً من السادة والأشراف والعظماء، وكانوا سلسلة كسلسلة الذهب متصلة الحلقات يتعلم بعضهم من بعض خلق السيادة كما يتعلم العلم على الأساتذة، وكان أستاذ الأحنف ابن قيس في السيادة (قيس بن عاصم) المنقري التميمي الذي قال فيه رسول الله (لما رآه (هذا سيد أهل الوتر) وقد قيل لقيس هذا: صف نفسك، فقال أما في الجاهلية فما هممت بملأمة، ولاحُمتُ على تُهمة، ولم أر إلا في خيل مغيرة أو نادي عشيرة، أو حامي جريرة، وأما في الإسلام فقد قال الله تعالى (ولا تزكوا أنفسكم) وقد نزل في البصرة كتلميذه الأحنف، وتعلم الأحنف من الحلم، ولما مات قال فيه القائل:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدَّما
خلف الأحنف قيسا في السيادة، وكان أبو موسى الاشعري واليا على البصرة فبعث بوفد منها إلى عمر بن الخطاب فكان الأحنف أحدهم وخطب بين يدي عمر يسترعيه النظر لأهل البصرة. فاعجب به عمر وقال (هذا والله السيد!) فدوت هذه الكلمة في الأنحاء.
أكثر الواصفون في ذكر الأحنف ومزاياه وسيادته، والسيادة أنواع، وقد ترى لكل سيد طعماً لا تجده في سيد آخر، ولكل سيد نقطة تتركز فيها عظمته قد لا يشترك فيها سيد آخر، فسيدٌ عظمته في شجاعته، وسيد عظمته في سخائه وسيد عظمته في قول الحق يجهر به والسيف على رأسه، فان نحن سئلنا عن مركز العظمة في الأحنف، فعظمته كانت تتركز في خصلتين تتصل إحداهما بالأخرى اتصالا وثيقا: انه منح نظرا صائبا يتعرف به المحاسن والمساوئ، ومعالي الأمور وسفسافها، وقلَّ أن يخطئ في ذلك، ثم منح إلى ذلك إرادة قوية يحمل بها نفسه على ما أدرك من معال ومحاسن مهما كلفه من مشقة وحمله من جهد، فلو