لأن العالم في كل نواحيه وفي كل مدلولاته الصحيحة، وكذلك التراث الإنساني الذي اتفق على استقامته العلماء والحكماء منذ العهود الأولى يصبح باطلا؛ ويجب أن تبتدئ الخليقة دورتها من جديد، وأن تتخذ في ذلك من (هواجس) هذا الرامز أسسها الأولى. وليس بعد ذلك من دليل على الخروج على إجماع السلف والخلف وقلب الحقائق والوجود في كل شيء؛ فالتاريخ يكذب، والمنطق يحتضر، والإجماع ينكر. . . وإنها لنزعة تذهب بالإنسانية إلى عهد تهيم فيه على وجهها في الأرض، فلا تخرج عن حد الفطرة والعراء!
وثالثاً - فان الرأي صحيح كذلك من الوجهة الاجتماعية، لأن العلم في نظر أبي الاجتماع الحديث (دركيم) هو التعاون المشترك بين العلماء. ونشوء المدارس الفكرية، التي تبغي إقامة قوانين ثابتة لمظاهر الوجود في كل شيء ترتكز على نظريات يدعمها البحث والاستقصاء. وهو أيضاً إشراك الناس في مفهوم الحقائق المكتشفة، ورفع الغموض والالتباس عن إفهامهم ليقروا في إجماع الحقائق واضحة. فالعلم إذاً مظهر من مظاهر الاجتماعي البشري مهمته خلق التماسك الفكري في عقلية الفرد عن طريق الوضوح، وخلق نفس هذا التماسك في عقلية الأفراد عن طريق ثبات الآراء والنظريات، لأنه كلما رفع الجهل والغموض والإبهام عن عقول الناس زاد (الوفاق) فيما بينهم، لاتحادهم في نفس وجهات النظر والتفكير
وأكبر دليل على صحة ما نقول هو أنه عندما ساد مذهب السوفسطائية في المجتمع اليوناني القديم الذي يرتكز على مبدأ (الشك) ومرض (الحيرة) الفكرية، لأنهم كانوا يبشرون بنظريات يصح أن يلقنوا الشبيبة نقيضها في الغد، فالعلم في نظرهم هو علم (الفرد) وعلم (المناسبات)، وعلم الفصاحة والثرثرة والرغاء، لهذا ساد الفهم (النسبي) للحقائق في ذلك الزمان، وأدى المنطق الفاسد إلى سوء الأخلاق لعجزهم عن تصور علم واحد ذي منهج واحد يوجد بين الناس ويوجه أفكارهم إلى الغايات المتحدة في الفهم، فلزم للقضاء على السوفسطائية قيام ثلاث ثورات لتنظيف المجتمع اليوناني من أدران أفكارهم: الأولى ثورة سقراط في الأخلاق، والثانية ثورة أفلاطون في الطبيعة، والثالثة ثورة أرسطو في المنطق. والمذهب الرمزي كالسفسطة ينعدم فيه الفهم الاجتماعي، لأنه يرجع الحقائق إلى محض (الفرد) أي هواجس نفس الرامز وتصوراته الملتوية وغموض احساساته التي