وعنتاً. ولكنه يحس في قرارة نفسه أن له في ذلك ما يشفي نفسه، فهو يحمى على الصراع وهو لا تظهر مواهبه على أحسن ما تظهر إلا حين يبتعثها ضجيج الموقف وتستثيرها حرارة الدفاع
وكذلك أشفق دوجلاس وأوجس في نفسه خيفة، ولقد فطن وهو الخبير بأقدار الرجال، البصير بأمور السياسة، إلى دقة الموقف. وأدرك أن ابراهام اليوم غيره بالأمس، فهو منه إذ ذاك حيال قوة لا تنفع معها حيلة ولا يجد في مكر أو دهاء، قوة منشأها عقيدة صقلتها الأيام ووثقتها التجارب وأمدتها الفطرة بمثل ما تمد به التربة الصالحة الشجرة الطيبة من الغذاء الصالح؛ فليس ثمة ما يحول بينها وبين امتداد الجذور وسموق الفرع. وكأنما كانت ماري يوم فضلت لنكولن على منافسه ورضيت به زوجاً، تطلع على الغيب فترى هذا الصراع بين الرجلين ثم تصدر حكمها على هدي وبصيرة وعلى تجربة لا تدع مجالاً لوهم!
وهل كان انتخاب إبراهام لمجلس الشيوخ هو غاية ما يتمناه؟ كلا فما أهون هذا الأمر إذا قيس إلى ما كانت تجيش به نفسه من آمال لم يكن يراها وقفاً على نفسه بل كان يراها لصالح غيره؛ وهو لن يشعر لها بقيمة أو خطر إلا أن يتسع مداها حتى يشمل أمريكا كلها؛ بل إنه ليرى رضاء نفسه في أن يشقى ليسعد بنو جنسه. . .
لذلك لم يكن عجباً أن يسير كما تملي عليه مبادئه وكما يوحي إليه قلبه، لا كما يتطلبه الانتخاب من محاولات ومداورات وألاعيب وأكاذيب ومرونة وليونة وغير ذلك مما يتذرع به الكثيرون من أصحاب السياسة حين يجعلون غرضهم النجاح في المعركة فحسب. وما كان إبراهام يرى في الوصول إلى مقعد في الشيوخ إلا إحدى الوسائل لتحقيق غرضه الأسمى وذلك كما محصته الأيام هو حل معضلة العبيد مع المحافظة على كيان الاتحاد
وفيما كان رجال حزبه يقدمونه، كان هو يعد خطاباً حاسماً يعبر به عما في نفسه، ولقد ظل يثبت ما يجري في باله على قصاصات من الورق يدسها في قبعته، حتى استوى له موضوعه فجمعه بعضه إلى بعض ولم يفض به إلى بعض خلصائه إلا قبل إلقائه ببضع ساعات؛ ولقد أخذهم الدهش لما جاء فيه أنه لم ير رأيه منهم سوى صديقه هردون؛ ولكن لنكولن كان إذا صمم على أمر لن يلويه عنه شيء فقال لهم (أي أصدقائي: إن هذا الشيء