والعظمة الحق كالذهب الحر في بساطة جوهره وبهاء منظره ولن يخرج الذهب عن صفته إذا وجد غفلاً من الزخرف؛ والنحاس مهما أدخل عليه من النقش والزينة لن يكون إلا نحاسا؛ ً والعظمة الحق هي التي تخلق الرجال وتبنيهم، وليست هي تلك التي يختلقها الرجال فيكون الواحد منهم بما يتصنع ويتكلف كالذي يحظر في حلة رائعة وهو لا خلق له؛ فلا تخفى الحلة سمته، ولا يكون منها إلا أنها تظهره أقبح منظراً وأحقر أمراً؛ فهو إنما ينبه الناس بما ينتحل ويدعى لنفسه من أوجه الكمال إلى حقيقته فيرون أنه ليس بالكبير ولكنه يتكبر، ولا تقع أعينهم منه إلا على مظهر وإن كان ليخيل إليه أنه جوهر. . .
ولقد كان لنكولن يفعل الفعل أو يرى الرأي في أمر من الأمور عن لقانة مدهشة وطبع معجب بكماله، فإذا رددت فعله أو رأيه على ما تواضع الناس عليه من عرف وما اتفقت عليه عقولهم وقلوبهم ما وجدت فيه شذوذاً ولا نقصاً؛ بل إنك لتراه حقيقاً أن يسير الناس كما يرمم، كأنه في أعماله كوكب في هذا الفلك الدائر يتحرك وفق نظام محدود فلا يضطرب ولا يتذبذب إلا أن ينفرط عقد ذلك النظام.
وكان من أحب الأشياء إلى نفسه أن يرفع الناس بينهم وبينه الكلفة، فهو يصاحبهم ويعاشرهم كأنه أصغرهم قدراً؛ وهو على كثرة بره بهم لا يبتغي على معروف جزاء وكان إذا غشى مجلساً لهم رآهم يتنحون له عن مكان الصدارة فيأبى إلا أن يجلس حيثما اتفق له؛ وإنه ليستحي أن يناديه الناس باسمه مجرداً عن كل لقب يراد به التعظيم وهو عندهم أيب الأمين أو أيب العجوز أو هما معاً، وهي ألفاظ لها في أذنه سحر الغناء لأن فيها جمال الصدق وجلال التواضع. . .
وحسبك دليلاً على جمال نفسه وطيب عنصره أنه طلب إليه يومئذ أن يكتب كلمة فيها ملخص حياته لتكون مرشداً إلى ترجمة توضع له فلم يشر إلى أنه نشأ في الغابة من أبوين فقيرين، وأنه عمل منذ صغره على كسب قوته فساعد أباه تارة واشتغل أجيراً تارة، وأنه تعلم القراءة والكتابة دون مساعدة تذكر من جانب غيره، وأنه ذهب إلى نيوأر ليانز في تجارة لأحد الناس وأنه أشتغل بعدها صبياً في حانوت، وأنه عمل في تخطيط الأرض وفي توزيع البريد، وأنه عالج المحاماة حتى حذقها، وأنه اختير عضواً في مجلس الولاية. . . كل أولئك دون أن ترى في كلمته هذه العبارة تشعر بفخر أو تنم على الزهو، حتى أنه ما