للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الشاعرة وحكمته المتزنة وسخريته اللاذعة. ويكاد كثير من مقالاته يكون برهاناً على ذلك؛ فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة.

. . . وهذه هي كل أدوات القاص الموفق؛ فما ينقصه إلا أن يدرس فنّ القصة ومذاهبها ليكون فيها من السابقين المبرَّزين. ولكن الرافعي كان يجهل طبيعة نفسه، وكان له في كتَّاب القصة ما قدمت من الرأي، فكان تخلفه من هذين!

وحتى فيما أنشأ من القصص بعد ذلك، لم يكن له مذهب فني خاص يحتذيه ويسير على نهجه؛ ولكنه كان يقص كما تلهمه فطرته غير ملقٍ باله إلى ما رسم أهل الفن من حدود القصة وقواعدها؛ فإننا بذلك لنستطيع أن ندرس طبيعته وطريقته القصصية خالصةً له وحده، غير متأثر فيها بمذهب من مذاهب المتقدمين أو المتأخرين من كتاب القصص؛ على ما قد يكون فيها من نقص وتخَّلف، أو ابتكار وتجديد.

وطريقة الرافعي في كتابة قصصه غريبة، وغايته منها غير غاية القُصاص، فالقصة عنده لا تعدو أن تكون مقالة من مقالاته في أسلوب جديد؛ فهو لا يفكر في الحادثة أول ما يفكر، ولكن في الحكمة والمغزى والحديث والمذهب الأدبي، ثم تأتي الحادثة من بعد؛ فهو إذا هم أن ينشأ قصة من القصص، كان همه الأول أن يفكر في الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في إنشاء المقالات - فإذا اجتمعت له عناصر الموضوع وانتهى في تحديد الفكرة إلى ما يريد، يكون بذلك قد انتهى إلى موضوعه فليس له إلا أن يفكر في أسلوب الأداء، وسواءٌ عليه بعد ذلك أن يؤدي موضوعه على طريقة المقالة أو على طريقة القصة فكلاهما ينتهيان به إلى هدف واحد؛ فإذا اختار أن تكون قصة تناول كتاباً من كتب التراجم الكثيرة بين يديه، فيقرأ منها ما يتفق، حتى يعثر باسم من أعلام التاريخ، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه ومجالسه؛ ثم يصطنع من ذلك قصة صغيرة يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل؛ وإنه ليلهَم أحياناً ويوفق في ذلك توفيقاً عجيباً، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ وما للتاريخ فيها إلا نادرة ويرويها في سطور، أو إلا أسماء الرجال. . . . . .

على أن الإبداع في ذلك هو قدرة الرافعي - يرحمه الله - على أنه يعيش بخياله في كل عصر من عصور التاريخ، فيحس إحساسه ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك كثير ممن يقرأ

<<  <  ج:
ص:  >  >>