عن الأعين إذ تضيع على الأرض، وتبقى في الغربال الحبيبات التي تزيد عنها حجما إذ أنها لا تنفذ من بين الخيوط. . . وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فأنه إذا لم يكن من الحرب بد وأن هذه الحرب سوف تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، وبينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة؛ ومن هؤلاء يبرز أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم. . .)
هذا هو العزم الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفساً شاعرة وقلباً يحب الخير وينأى بجانبه عن الشر وينفر بطبعه منه؛ وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلاده من شر وبيل فهو لا يهمه أن يذوق الموت بعد أن وطد على الجهاد عزمه ووهب إلى بلاده نفسه. . .
ها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة فهل ابتغى من وراء ذلك جاهاً أو تلهى بالعرض عن الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورا؟ كلا فها هو ذا يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير. . . وإنه ليحس أنه هالك في هذا الجهاد ولا محالة ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات. . . تحدث هذا الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك الفوز فذكر أنه نظر يومئذ ذات مرة، وقد جلس متعباً على مقعد، إلى مرآة أمامه فرأى فيها لوجهه صورتين فهب من مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا ولكنها عادت كما كانت حين عاد فجلس؛ وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة. ولقد أوجس ابراهام خيفة في نفسه؛ ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته بل لما انبعث منه في نفسه من المعاني. ولقد تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة. . . أما امرأته ففسرت ذلك أنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يا لله ما أعجب نبوءات هذه المرأة!
وكأنما كان صاحبنا يحس ما يخبئه له الغد من مكروه فهو يقدم في عمله على علم بما وراءه ولذلك لا يتهيب ولا ينكص، يحذر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة. . .