حظي ما يشغل بالي من الشئون والأعمال، فكنت أقضي سحابة نهاري، منزوياً في غرفتي، حيث وجدت المجال الكافي من الزمن لأستعرض أفكاري وأخلو بها
اختلال الأعمال المكونة من جهود كثيرة متباينة
كان في طليعة تلك الأفكار ما لاحظته من أن الأعمال المكونة من أجزاء وأقسام كثيرة، إذا اشتغلت فيها عدة أيام، أصبحت وليس فيها من الروعة والإبداع ما في أشباهها من الأعمال الأخرى التي لم تمتد إليها سوى يد واحدة:
فالبناء الذي أشرف عليه وأنجزه مهندس واحد أكثر جمالاً ونظاماً من سواء من الأبنية التي عمل فيها الكثيرون، والتي رسمت مراراً، وبني على أسسها الهرمة أبنية لم تكن معدة لها.
وكذلك المدن القديمة التي أصبحت من الزمن مدنا كبيرة، بعد أن كانت قرى وضياعاً، فهي عادة فوضى في بنائها، إذا قيست بتلك المدن الحديثة التي وضع تصميمها مهندس واحد قبل المباشرة في بنائها. ونحن لو نظرنا إلى أبنية تلك المدن القديمة لوجدنا أن فيها ما لو أخذناه على حدة لما كان يقل فناً وروعة عن أبنية المدن الحديثة، ولكن نظرة واحدة تظهر لنا ما هي عليه من النظام والوضع: فهنا بناية كبيرة، وإلى جانبها أخرى صغيرة، وكلها تتحكم بالشوارع والطرق، فتردها متعرجة: عريضة هنا، ضيقة هناك.
وكذلك الشعوب المتوحشة سابقاً، تلك الشعوب التي لم تتحضر إلا شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن؛ وبقدر ما كانت تدفعها إلى ذلك مغايرة الخصومة والنزاع للحياة فقد رأيت أن ليس بإمكانها أن تضاهي بنظامها تلك الأمم الأخرى التي عرفت الحضارة منذ أقدم العصور، فاجتمعت كلمتها وأجمعت على اتباع دستور واحد يضعه لها مشرع حكيم.
وكان في حكم الثابت لدي أن حكومة الدين الحق، هي مطلقاً وبدون منازع، خير الحكومات نظاماً، لأنها من صنع الله تعالى وحده. ولما لا نقصر كلامنا على الأمور البشرية؟ فأنا أعتقد أن مدينة إسبرطة إذا كانت قد ازدهرت قديماً فليس ازدهارها عائداً إلى أن كل قانون من قوانينها كان صالحاً في ذاته، فلقد كان في قوانينها شيء كثير مما هو غريب وغاير للحق القديم، وإنما ازدهارها عائد إلى أنها اتبعت تشريعاً واحداً، وضعه شخص واحد، كان يرمي في جملته إلى غاية واحدة.
ورأيت أيضاً أن ما تشتمل عليه الكتب والمؤلفات من علوم ونظريات، إنما تكوّن من آراء