للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الجيش، وزعيم مسيطر في الحكومة

رأى مصطفى طغيان عبد الحميد يخنق الحرية ويزهق النفوس ويرهق الضمائر، فقاومه وهو يافع في جماعة (الوطن)، وهاجموه وهو شاب في جمعية الاتحاد والترقي، وقضى على تراثه كله وهو كهل في المجلس الوطني الكبير. ثم كان في كل عمل تولاه يمضي مضي الأمر المقدور، فلا يتقيد برؤسائه الألمان، ولا بزملائه الترك، إذا رأى الفوز في خطته أو الصواب في رأيه

وعصفت الحرب الكبرى بغليوم وبوحيد الدين، ومزقت معاهدة (سِفر) رقعة الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء، فكان لكل حليف درة من تاج محمد الفاتح، حتى لم يبقى للخلافة إلا موضع العرش. ونزل الخليفة ووزراؤه على حكم القادرين فاعترفوا بالضيم واستكانوا للمذلة. وأعتقد الناس أن (الرجل المريض) قد لفظ نَفْسه فلا حسٌ ولا حركة. ولكن الشعوب الحربية يتنخلها الانتخاب الطبيعي فلا تموت بالصيحة كما تموت الشعوب الوديعة، فبقيت الروح التركية تضطرم وتفور في مصطفى كمال ورفاقه الميامين على شعاف الأناضول، فجمعوا فلول الجيش المحطم وكرّوا به على اليونان فكبكبوهم في البحر، وضعضعوا عزائم الأحلاف فهادنوهم في (مودانيا) مهادنة النصر، وعاهدوهم في (لوزان) معاهدة الاستقلال. وبُعثت تركيا من جديد على صرخة كمال وأنصاره كما يبعث المقبور على نفخة الصور، عارية من دنياها القديمة، منقطعة عن ماضيها الغابر، فاستبدلت الجمهورية بالخلافة، والقبعة بالطربوش، وفصلت بين الدنيا والدين، وكتبت من الشمال إلى اليمين، وأدارت ظهرها للشرق، وساوت بين الرجل والمرأة في الحق، وسجلت نفسها في عصبة الأمم من مواليد هذا القرن!

قالوا: إذا كان محمد من جهة البشرية معنى العرب، فإن مصطفى كمال من هذه الجهة معنى الترك. ووجه الشبه في زعمهم أن أتاتورك أحيا وجاهد واصلح وشرع، وأن مبادئه ستنطبع في العقلية التركية فلا تصدر إلا عنها ولا تسير إلا عليها؛ وقد فاتهم أن نهضة محمد يسددها قرآن ويسندها وحي، وأن نوطتها في القلوب آتية من اقتناع العقل لا من شدة السلطان؛ وقد انتقل العرب على هُدَى قائدهم الأعلى من حال إلى حال لا يقاس ما بينهما من البعد والاختلاف بما بين حالي الترك، ومع ذلك ظلوا في طريقهم الواضح إلى الله ثلاثة

<<  <  ج:
ص:  >  >>