يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم كثير من مقطوعاته وهو لم يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم من أمثاله ما توحيه خواطره وميوله في غير تصنع أو كلفة كما يقول هو عن نفسه (كنت قبل أن أشب عن الطوق، وأعلم ما دواعي الشوق، بهجا بالشعر نظما وحفظا، متقنا علومه معنى ولفظا، وامقا بسبك القريض، كارها للكسب بالتقريض) فكانت هذه الفطرة أول عامل في إيجاد تلك القوة الشعرية النابغة، وأكبر مؤثر في توجيه نفسه بعد إلى التفني بالعواطف الصادقة الطبيعية المتصلة بأعماق النفس ورغبات الحياة. ثم اجتمع له عامل آخر شحذ هذه الفطرة وعاونها على السير في اتجاهها وهو ولادته من أسرة راقية ذات قدم في المجد نفخت فيه من روح العظمة فجعلته يهتف بمآثرها ويغرد بمفاخرها، وربته كما ينشأ ولد النبلاء آخذا بقسط وافر من الثقافة العربية السائدة في ذلك الوقت، أو بالأحرى من الثقافة العباسية، لأن تراث الفكر العباسي كان لا يزال هو المثل الرفيع الذي يحتذيه كل من أراد أن يرتوي من مناهل العلم والأدب بالرغم مما أصابه من القضاء السياسي. وإلى هذين العاملين كان هناك سبب ثالث ساعد كثيرا في بناء ذلك الصرح الشعري الباذخ وهو ما ألجأته الحياة إليه من التنقل بين عواصم البلاد العربية: فقد فارق الحلة وهي مسقط رأسه حول عام سبعمائة من الهجرة إلى (ماردين) اكبر قلاع الجزيرة حيث نزل على صاحبها الملك المنصور نجم الدين غازي ثم أبنه الملك الصالح، وهما من أمراء البيت الأرتقي الخاضع لسيادة مصر في عهد السلاطين، ورحل بعد ذلك حول عام ٧٢٧ إلى مصر نفسها فنزل بالملك الناصر قلاوون، ثم عاد إلى حماة بالشام فاتصل بالسلطان المؤيد عماد الدين الأيوبي وهو المؤرخ الشهير بأبي الفداء وابنه الأفضل، وقد كانا واليين من قبل سلطان مصر أيضا، وذهب إلى الحجاز مرارا لأداء فريضة الحج والزيارة، فكان لهذه الرحلات آثار قوية في إحياء شعره واستغلال قريحته وفي تنمية ثقافته ومقدرته الأدبية. وإذا كان الرجل قد اجتمع له نقاء الغاية ورقي الأسرة وملاءمة البيئة فماذا تنتظر من إلا أن يكون شاعرا فحلا يرفع منار الأدبويحتل له من الخلود مكانا؟!
هكذا كانت دواعي الشعر مهيأة لصفي الدين، فأخذ يصعد إلى قمته حتى أشرف على الغاية وصار أمير الشعر بلا منازع في أقطار الشرق ما عدا مصر التي كانت معتزة إذ ذاك بأميرها الذي لا يباري وهو:(ابن نباتة)، ولما كان العصر الذي نشأ فيه الحلي هو الوارث