إذا ابتسمت والفاحم الجعد مسبل ... تضل وتهدي من ظلام ومن ظلم
تغزلت فيها بالغزال فأعرضت ... وقالت لعمري هذه غاية الذم
وكم قد بذلت النفس أطلب وصلها ... وخاطرت فيها بالنفيس على علم
فلم تلد الدنيا لنا غير ليلة ... نعمت بها ثم استمرت على العقم!
وقد بلغ من قدرته وتجليته في هذه الحلبة أنه ألف قصيدة طويلة عدتها مائة وخمسون بيتا تشتمل على مثل هذا العدد من أنواع البديع المختلفة كأنها كتاب علمي وضع لضبط هذا الفن بالقاعدة والمثال، ومع ذلك فهي قطعة أدبية قيمة تجمع بين الغزل الرقيق والمدح الرائع والاستعطاف والوصف في سياق مخاطبة الرسول (ص) الذي يتوسل إليه الشاعر بعد مرض عضال شفاه الله منه! ومن أبياتها هذه الأربعة التي جمع فيها أنواع التوشيح والمقابلة واللف والنشر والتذييل والالتفات:
هم أرضعوني ثدي الوصل حافلة ... فكيف يحسن منها حال منفطم؟
كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهم
وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهمُ بهمِ
لله لذة عيش بالحبيب مضت ... فلم تدم لي وغير الله لم يدم!
ومع أن صفي الدين عارض كثيراً من الشعراء في العصرين الجاهلي والأموي، وشاهد كثيرا من مظاهر حياتهم في البادية أثناء رحلاته الطويلة، فإننا لم نره يتناول الأوصاف الجاهلية الغربية أو يختار غير الشائع في عصره من الألفاظ السهلة الجارية على الألسن الفصيحة، متأثرا في ذلك شعراء العصر الأيوبي في مصر، وأن كان لم ينزل معهم إلى الذوق الشعبي العام، فكأنه وقف وسطا بين الأسلوب القديم الغامض، والأسلوب الحديث الواضح، ومن أجل موقفه هذا رماه أحد النقاد في عصره بسهم حاد إذ عاب عليه ضعف شعره من الوجهة اللغوية وقلة استخدامه للألفاظ الغربية، فأخذ يرد عليه بهذا البيان القوي الحاسم: