بين شفتين، أو غريق يخبط في لجة بين ساحلين، ولا يدري قبره في أي الساحلين، أو المحكوم عليه بالموت أوقف بين سيفين، ولكن الموت واحد في السيفين.
فلم يبق من الجهات الأربع إلا جهة واحدة فتحول إليها الملك، فإذا هناك في أقصى الأفق معنى الرحمة الإنسانية وقد أنكمش وتضاءل واخذ منه الهزال كأنه مريض، أو كأن الحزن على الناس قد أذابه فقطع الرجاء منهم وانزوى في ناحية ينتظر نهاية هذا القدر المنصب من السماء على الأرض.
جزع الملك من ذلك وكاد، وهو قطعة من الخلد، يداخله الخوف ويخالجه الشك وتمسه بعض آثار الحياة الفانية، فقال ما بالى قد تبللت أجنحتي من رشاش هذه الدموع وهذه الدماء، وما بال هذا لعالم الآخر ليس فيه إلا متألم لميت أو متألم لحي أو متألم لنفسه، وما بال الحياة قد أمست من شدة بؤسها وكدرها وهمومها تطحن أكثر مما يطحن الموت؟ هل بقي شيء إلا النفخة في الصور، وبعثرة من في القبور، ووقوف الفلك الدَّوار فلا يدور، وانطفاء نور الأرض فلا ظلوم ولا نور؟
وقف الملك الكريم أربع سنوات وأشهرا وهو ينتظر يوماً يرى فيه السماء مسفرة الوجه برضا الله ونعمته، بعد غضبه ونقمته، فلما سطع ذلك اليوم المضيء وأبرقت بفجره أسارير السماء هز الملك جناحيه على المشرق والمغرب وانتفض في جو الأرض انتفاضة ملائكية أطفأ بردها غيظ القلوب المتأجج الذي تشاتمت به أفواه المدافع زمناً طويلاً، وهب نسيمها الآتي من الجنة فدافع إلى ناحية الجحيم كل روائح البارود ودخان القنابل ولهب النار
ثم ضحك الملك مسروراً فانتثر من ضحكة الابتسام على كل الشفاه، وأصبح جو الأرض من مطلع الشمس إلى مغربها وهو يتلألأ كأنه ثغر طفل يضحك في وجه أمه.
وسمع الملك حمد الناس وشكرهم وتهنئة بعضهم بعضاً، ورأى الأرض وقد سكنت بعد غليانها وأقبل أهلها يصلحون ما فسد، ويبنون ما تهدم، ويديرون في الأرض حركة جديدة ويسخرون العناصر لبناء الطبيعة الاجتماعية أو لهدمها كما كانوا يفعلون
فقال: الآن أصلحت بين الناس وأصلحت الناس للناس، ثم رمى بطرفه إلى الجهات الأربع فإذا معنى الرحمة قد ملأها واستفاض عليها، فهز جناحيه صاعداً في فلك النور، وفي أذنيه تهليل الناس وصلواتهم، حتى إذا انتهى إلى أفقه الأعلى كانت الكلمة الأخيرة التي دخلت