للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(لم بنه الله عن البحث والتفكير، ولم يأمرني إلا اعرف شيئا عن هذه الاشياء، اقتربي هنا، ماذا كتبت؟ لا لا أريد شيئا من هذا، اكتبي ما أمليه عليك كله، اكتبيه رسالة مني إلى أهل هذا العالم كلهم، سأعرف الحقيقة اليوم، ستقودني إليها قوة خفية لا أعرف عنها شيئا الآن ولكني سأعرفها بعد حين. إياك أن تفوتك كلمة واحدة أو إشارة واحدة. أفهمت؟)

(نعم اختاه، سأكتب كل شيء)

لقد كانت دائمة الصمت كثيرة التفكير. اتسعت دائرة تفكيرها على مدى الأيام حتى شملت اعوص ما فكر فيه الإنسان وأغمضه. ولم تصل إلى العشرين من عمرها إلا وشغل تفكيرها هذا الكون بما فيه من قوى خفية. قوى تتلاعب بالإنسان كيفما شاءت، وهو لا يدري من أمرها شيئا. يحاول ويحاول ولكن سرعان ما يعرف ضآلة المرحلة التي اجتازها أمام ذلك الخصم المظلم من الأسرار والخفايا.

أشفقت عليها أمها مما هي فيه، وحاولت أن تدخل إلى تلك النفس المفكرة الصامتة الحزينة بعض ما يسليها أو يريح فكرها، ولكن نصيبها كان الفشل المؤلم.

وهاهي ذي الأيام تجري سريعة والأم يزداد اشفاقها، وخوفها والفتاة يزداد نحولها وضعفها، ويزداد احتقارها لكل شيء في العالم إلا ما تفكر فيه. كل متعة تنظر إليها كما ينظر الشاب إلى ألاعيب صباه، وإذا ما رغبها أحد في أي لذة أو سلوة هزت كتفيها وقالت:! (لست أدري ما هذه السذاجة؟ لقد القي إليكم مدبر هذا الكون بهذه الألاعيب لتلهوا بها عن اللذة الكبرى: لذة العلم، لذة معرفة الحياة وما بعدها.)

ساءت حالها على مر الأيام فأرغمت على ملازمة الفراش في مستشفى الأمراض العقلية، ولكن ذلك لم يمنعها من مواصلة التفكير. وكثيرا ما قرأت في كتب الدين، وكثيرا ما قرأت القرآن، تقف عند بعض آياته فتسترسل في التفكير العميق، وكثيرا ما وقفت عند الآية (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وحملت الآية أكثر ما يمكن من معاني الاستهزاء والسخرية (وهؤلاء الناس لا يعلمون شيئا، ولكنهم لا يجتهدون في أن يعلموا شيئا. قنعوا بما لهم وفسروا العلم بتلك المحاولات التافهة التي يقضون العمر في تحصيلها وكأنها هي العلم، لقد انشغلوا عن العلم الحق، عن أهم ما يتشوقون إليه. لقد خدعوا أنفسهم والبسوها ثوبا من الإيمان والاطمئنان وهم يعلمون في قرارة نفوسهم انه ليس إلا مبردا للنار المتقدة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>