والعاطفة، ليست وحدها كل شيء في الشعر بل يجب أن تضاف إليها الفكرة التي تنظمها وتهيئها للحياة والظهور، وكل الفنون ماعدا الموسيقى لابد فيها من الفكرة حتى تتلذذ العاطفة، وليس من الواجب أن تخترع الفكرة، وإنما الواجب أن تظهر في معرض جديد يوضح عمل صاحبها وقوة إيمانه بها، والشعر قد يكون فكراً خالصاً فيبحث في أعمق المسائل التي تشغل عقول الفلاسفة من مثل طبيعة الخير والشر، وحينئذ لا يكون شعراً بالمعنى الصحيح إلا إذا امتزج بالقلب فأصبح عاطفة قوية تفيض منه لا من العقل , تخاطب الشعور والوجدان قبل أن تخاطب الأفكار والأذهان , ولقد أحس قدماؤنا حين قالوا (الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان).
والشعر في الواقع رسالة كرسالة الأنبياء، فهو يقوم على الإلهام أكثر من أي شيء آخر، والأيمان بالفكرة ووضوحها هما الملكان اللذان يوحيان إلى الشاعر بالمعاني الجميلة المعجبة، والصور الفريدة المعجزة، فيخرج للناس أفكاره نيرة واضحة، كأنها وهج الحريق في الليل البهيم، فر تجد تكلفاً ولا تعملاً، وإنما هي زهور جميلة ينثرها الشاعر على رغمه كما ينثر الزيتون زهوره، وما أشبه الفكرة القلقة يقولها الشاعر بالعصفور المضطرب الحيران التائه من عشه، ويجب أن تكون الفكرة قوية، ليكون الشاعر مبدعاً، رائعاً حتى إذا أراد أن يحلق في السماء انتهى إلى أعلاها فكان نجماً زاهراً بين نجومها، وللأسف نجد الشعر العربي تعوزه القوة في كثير من الأحيان، ولعل هذا هو السر في أن الشاعر العربي إذا أراد أن يحلق فوقنا ارتفع ارتفاع السحاب في السماء الدنيا ولم يستطع الارتفاع إلى أعلى أكثر من ذلك، لأن أجنحته ليست قوية، على أنه سرعان ما يدنو إلينا وينزل من سمائه إلى أرضنا.
والعواطف والأفكار لا تكون وحدة الشعر بنفسها، وإنما الذي يصنع ذلك هو الخيال الشعري، فهو المنظم للأفكار والعواطف وهو المخرج لها، هو الذي يجمعها وينفحها بروح من لدنه فتستوي ناطقة معبرة نشخص لها ونعجب بجمالها، وإذا شاهد شخص حديقة جميلة في مكان وجاء يقول: لقد رأيت حديقة بها أزهار وأشجار ومياه لم يكن هذا شعراً، وإنما الشعر حقاً هو الذي يحمل للناس أبهة الخيال فيظهر للناس في وحدة جميلة بديعة تسترعي الأنظار، وتخلب الألباب، وأي خيال أجمل من قول كيتس (يوجد الغد مبرعماً في نصف