والكرامة، فلا تعيش للكسل والخمول اتكالاً على كرم المحسنين
هذا ولا بدَّ لي هنا من الإشارة إلى ما حدث في اليوم التالي حين رافقت صاحبتي إلى (وادي الملوك) فقد تجمهر حولنا صغار السائلين المعتفين وتتبعوا خطواتنا، وكادوا يلزموننا أن نعطيهم شيئاً من النقود. ولعمر الحق أن دموعي تنهمر غزيرة إذ أذكر أولئك الأطفال المحرومين متاع الطفولة المقيمين في منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الجهل، ويقطن الذل في جوار القنوط، الذين يعيشون على الجانب الأيسر من النيل، في تلك الأكواخ الحقيرة، المنثورة حول مدافن الملوك الغر الميامين، كجراح عميقة في جسم كياننا الاقتصادي والعمراني، ويموتون مهملين. لهف قلبي على تلك الزهرات الأنيسة التي تذبل في ظلام الحاجة والجوع والإهمال! ونحن نمرُّ بها على الجانب الأيمن، الجانب المعمور بمدارسه دون أن نعيرهم التفاتاً. ومَنْ ذا الذي يستطيع يَسْتطيع أن يدرك كنه القوى الكامنة فيهم، التي لا تدركها النجدة والثقافة لتبرزها إلى الوجود عظمة ومجداً وفضلاً ونبلاً
إن أيديهم التي تبسط اليوم في ذل السؤال، ستبسط في الغد للسطو والنهب، إذا لم يسعفها التهذيب الصحيح، ويجعلها أمينة للغد، نشيطة عاملة لرقي البلاد. ولقد جابهتني صاحبتي ببؤس هؤلاء الصغار، وتدفقت في الدفاع عن حقوقهم، ودهشت كيف تتقاعد الحكومة عن رعايتهم اللازمة، وقالت: إن الأطفال في جميع بلاد الله يقطعون مرحلة التعليم الأولى مجاناً، ولو ذهبت تلك البلاد في أحضان العزلة والريف. وإني وإن كنت أضم صوتي إلى صوتها في وضع احتياج أولئك الصغار أمام من بيدهم الأمر، لا أقصد رجال الحكومة فقط. ومن السفه أن نوجه نظرنا إلى الحكومة في كل شيء، ونطلب منها أن تخلق خلقاً جديداً. وليس من شأن الحكومات أن تفسح للناس القادرين سبل العمل، فيسعون بكل وسيلة صحيحة لرفع الصغار الفقراء، إلى مستوى يتعاضد فيه الجميع ويتناشدون، متعاونين على حب الحياة، ومراعاة المنفعة العامة.
بقي أني لا أستطيع أن أختم كلمتي اليوم قبل أن أضمنها أمرين تفزعت لهما صاحبتي. أولهما الصياح الذي اختص به باعة التحف الحديثة التي يصوغونها على طراز العاديات الأثرية، وإلحاحهم في عرضها علينا، وإمعانهم في إظهار ما كانوا يظنونه في أنفسهم من المقدرة على أن يبتزوا منا ثمنها. . .