أعرف في مركز (ط) عشرين بلدة يملكها من الشرق أمير ومن الغرب باشا، فليس لأحد من الأهلين فيها شبر أرض ولا جذع شجرة. إنما هم أجراء أو مستأجرون سخرتهم الغفلة والاستكانة لرجلين كسائر الرجال، ليس لبطنيهما سعة البحر، ولا لعزميهما قوة الدهر، ولا لنفسيهما عظمة الله. إنما هما فمان تملأهما المضغة، ومعدتان تكظهما الوجبة؛ ولكن لهما عينين كعين الجحيم لا تمتلئ، ونفسين كجوف الرمل لا يرتوي؛ فهما يعصران من أجساد هذه الألوف الجاهدة ذهباً يكتنز، وقصوراً تشاد، وسلطاناً يُرهب، وقطعاناً تسعى، ومراكب تطير، ورغائب تبتغى، ولذائذ تنال، وأوسمة تناط، وألقاباً تكتسب. ثم لا تدركهما بهؤلاء العبيد رحمة الخالق بالخلق ولا عناية الصانع بالآلة. فصاحب الآلة يوفر لها الشحم والوقود، ومالك البقرة يهيئ لها الحظيرة والعلف، وهما لا يتركان لفلاحيهما المساكين ما يمسك الروح ويستر البدن، ثم يلزمانهم أن يؤدوا أجرة الأرض ونفقة الإدارة قبل أن يأكلوا. فإذا أَوِف الزرع أو رخص السعر وعجزوا عن الوفاء، سلطا عليهم النظار والمحضِرين فأخذوا الدور التي يأوون إليها، والبهائم التي يزرعون عليها، وخلفوهم فرائس للمرض والفاقة، لا يجدون وسيلة للطب ولا حيلة للجوع. فإذا فزعوا إلى فضل الأمير أو الباشا زَمَّ بأَنفه واستكبر أن يفتح عينيه على هذا الهوان والقذر، ولعله ساعتئذٍ كان يمسح خرطوم كلبه أو يرجِّل عُرْف جواده!
سكان هذه القرى العشرين يعيشون هم وماشيتهم في أكواخ من الَّلبِن لا تدخلها بهجة الطبيعة ولا تعودها رحمة الله. تقوم على أقذار البرك وفوق سباخ الأرض وعلى ظهورها المراحيض وفي بطونها المزابل. والمالكان المدللاَّن يَغُطَّان بين الحرير والذهب، في قصور تطاول السماء، ورياض تنافس الجنة، ثم لا يتفضل أحدهما فيحمل الحكومة بجاهه ونفوذه على أن تجفف لهؤلاء البائسين بركة، أو تنشئ لأطفالهم الضاوين مدرسة. وعلة حب الباشا للمستنقعات أن نفقة ردمها على حسابه، وحجة بغضه للمدارس أنها تصرف الأطفال عن العمل في أرضه
ارجعوا يا قوم إلى الله فقد طبَّ لهذه الأدواء واحتاط لهذه الفواجع. إن هذا الأمير وذلك الباشا يملك كل منهما مليوناً من المال الذي تحول عليه الأحوال فيزيد ولا ينقص. فلو أنهما