مستوطناً، فرحبي بالمهاجر الغريب، وابتسمي له، لعله ينسى عذاب الغربة، وقسوة البحر، وألم المرض. لن تضيقي به ذرعاً وهو فرد من تسعة ملايين، فأكرمي وفادته، واطردي وحشته، لعله يذكرك يوماً بالثناء، ويعرف لك هذه اليد البيضاء، وهو بين أهله وذويه
كنت أحدث نفسي بهذا، والسيارة تقلني إلى بيت كنت أعرج إليه كلما مررت بلندن؛ ووقفت السيارة، وطرقت الباب فخرجت ربة البيت، ونظرت إلي فأنكرتني. رأت جسماً هزيلاً قد أنهكته العلل، ووجهاً شاحباً قد لفحته الشمس فعادت سمرته مخيفة رهيبة، وسمعت لساناً متلعثماً ينبئ عن نفس مضطربة وفكر تعب، فحملقت وترددت في الكلام ثم قالت:
- آسفة يا سيدي فكل غرف المنزل مشغولة
- ألا تعرفين بيتاً آخر أقضي فيه الليل، فأنا على ما ترين، أحوج ما أكون إلى الراحة
فأشارت إلى بيت جارتها، فحييتها وانصرفت شاكراً. ثم طرقت باب الجارة وسألتها في أدب ولطف، فاعتذرت
وأخذت السيارة مرة ثانية تعدو بي في شوارع لندن، وكلما رأيت فندقاً استوقفت السائق، وذهبت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى وأسأل في تردد وهيبة عن غرفة شاغرة أقضي بها سواد الليل، وأريح جسمي المتهدم وعقلي المنهوك، وفي كل مرة أجاب بأن الفندق غاص بالزوار، وأعود أدراجي إلى السيارة لأواصل البحث ولسان حالي يقول: وافق حظاً من سعى بجد. بيد أن لندن لاحت حينذاك وكأنها صحراء مقفرة، أخب فيها بين رمال ونجاد وصخور ووهاد، أو كأني بمدينة قد عفت وأتت عليها يد البلى والحدثان، أو كأني لا أزال على ظهر السفينة أطلب النجاة بين الماء والسماء
آه يا لندن. . .! ما هكذا حسبتك، أحقاً لا يوجد فيك سرير لغريب يشكو المرض ويطلب الراحة، وأنت عروس الإمبراطورية العظيمة وأكبر مدن العالم؟
ليت شعري ما للقوم كلما رأوني ازوروا عني ورفضوا سؤلي، بعضهم في أدب وبعضهم في قحة؟ وهل أقضي الليل هكذا أجوب الشوارع والطرقات؟
أين مصر؟ أين مصر؟
وأخيراً تشجعت وطرقت باب أحد الفنادق، فخرجت سيدة عوان، ينم وجهها عن شيء من