صبراً يا بني، فعمَّا قليل يدخل عليكم باباكم (بيرم) أو عمكم (نويل) بالألطاف والحلوى والحلل من وقفية الباشا فلان، أو من جمعية كذا للإحسان؛ ولكنه يجيبهم بالدمعة البادرة، والزفرة المحرقة، والنظرة الحزينة، فلا يفهمون إلا أنهم أحقر من هؤلاء الأطفال، وأن أباهم أفقر من هؤلاء الرجال. أما علة هذا التفاوت وإلهنا واحد، وأبونا واحد، وملكنا واحد، ووطننا واحد، فعلْمها سيأتيهم مع الأيام إذا ما خرجوا بأنفسهم إلى الحياة فرأوا المكظوظ الذي غصب رغيف الجائع، والملفَّف الذي نهب كساء العاري، والمموَّل الذي سرق نصيب المحروم
حدثني رجل من ذوي هذه الحال أنه كان يشتغل مياومة في مصلحة من مصالح الحكومة؛ فلما قل عليه العمل استغنوا عنه؛ ولكنه لسوء حظه لم يستطع أن يستغني عن الأكل، ولا أن يقنع أولاده بالصوم، فراح يطلب العمل في كل مكان والمعونة من كل إنسان فلم يجد. ودخل عليه عيد الفطر من هذا العام وليس في يده ما يشتري به الكُسي لبنيه والسمك لزوجه وكان قبل نكبته بأسبوع قد وعد الكبار بالبِذَل والصغار بالهدايا، فسبحت أخيلة الأطفال في جو من الأحلام عجيب الألوان عبقري الصور؛ وأسرعت ألسنتهم الثرثارة إلى إشاعة ذلك في الرفاق والجيرة. فغُمَّ على الرجل الحال، واعتلج في صدره الهم، وأصبح حيران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل. تمنى الخروج من هذا المأزق بالمرض أو الموت؛ ولكن المرض أو الموت إذا أصبح أمنيَّة الفقير امتنع كالخير وعزَّ كالسعادة. فاحتال على العلة بالجوع، فصام النهار والليل حتى هجمت عيناه وانسرقت قواه وبانت عليه نهكة المرض
ودخل العيد بضوضائه وخيلائه على هذه الأسرة البائسة فوجدها عاكفة على سرير مريضها الموجَع، مضرَّمة الأنفاس، لهيفة القلب، لا أمل لها إلا أن يعافى عميدها ويحيا. فانكفأ العيد النشوان المرِح خجلان عن هذا المنظر الأليم إلى مجالي البهجة والنعيم في قصور الكبراء والأغنياء والسادة. ولولا هذه الحيلة التي أنقذت هذا التعِس بالمرض من غير موت، لأشفى به الخجل والهم على الموت من غير مرض
تباركت يا الله! لقد جعلت في عيد الفطر زكاة، وفي عيد النحر تضحية. فهل فهم ذوو القلوب الغُلف والبصائر العُمْي من شرعك العادل أن الفقير يزكي بقوَّته حتى يعجز،