حمل الكتب والكراسات فكيف أصنع وليس لي غير يدين اثنتين: ولا أدري كيف نجوت من العمى فقد كانت عيناي ترمدان فلا تعبأ بي المدرسة. نعم كان لها طبيب يحضر كل يوم لعيادة المرضى منا فكنا إذا سمعنا ناقوسه نجري إليه فيصفنا أمامه ولا يجشم نفسه عناء السؤال أو الفحص، بل يقول وهو يشير إلى كل واحد منا على الترتيب:(شربة، لبخة قطرة) فيتفق أن يكون من حظك (القطرة) وشكواك أن رجلك مهيضة، أو اللبخة وبك زكام. وكنت أذهب إليه لعلاج عيني ولكني كنت أخرج مأموراً بالشربة أو اللبخة ولا أخرج قط بالقطرة. أما في البيت فكان كل ما أتداوى به من الرمد الماء البارد.
وآية غبائي وبلادتي أني كنت في كل فرقة الأخير، - حتى مقعدي كان الأخير في الحجرة - وكنت لصغر جسمي وقماءتي لا أكاد أبدو للمدرس، فهو لا يراني ولا يحس بوجودي ولا يعني بي، وأنا أغتنم هذه الفرصة فأتشاغل عن درسه بما يخطر لي من العبث. وكان جاري في بعض الفرق ضخم الجسم كأنه الفيل الصغير، وكان لجسامته يحتاج حين يقعد أن يتكئ على الدرج بكلتا يديه، وكانت عادته أن يمسح وجهه بكفيه بعد ذلك ويتمتم بقوله:(خيبة الله عليكم) - يعني زملاءه التلاميذ لأنهم كانوا لا يكفون عن ركوبه بالعبث، فاشتريت مرة قليلاً مما يسمى (بودرة العفريت) ونثرتها على الدرج فاتكأ عليه ومسح وجهه ثم ذهب يحك كفيه وخديه حتى دمى وجهه وانقطع عن المدرسة أياماً حتى شفي. ففطن المدرسون إلى وجودي بعد ذلك وصرت أتهم بكل ما يحدث في المدرسة ولو وقع في فرقة غير فرقتي، فأنا عندهم المحرض أو الموسوس بالعبث إذا لم أكن أنا الفاعل
أما الدروس فما كنت أفهم منها شيئاً؛ ولم يكن هذا ذنب المعلمين فما كانوا يقصرون في الشرح والبيان، ولكني أنا كنت لا أستطيع أن أنتفع بذلك لأني أكون قاعداً على ركبتي - فوق البلاط - عقاباً لي على ما لم أصنع في الغالب - أو واقفاً ووجهي إلى الحائط أو مطروداً من الحجرة كلها. وكيف يمكن بالله أن يفهم شيئاً من لا يزال هكذا - ركبتاه على الأرض أو أنفه على الجدار أو هو يتمشى في الفناء أو الدهليز. . .
وكان أرق المدرسين معي وأظرفهم وألطفهم على العموم إنجليزي أنيق كان إذا رآني - وما أكثر ما كان يغضي - أخرج على النظام يدعوني أن أقف ويطلب مني أن أتهجى كلمة (مجنون) أو (شقي) وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. ويكتفي من العقاب بهذا