لم يبق في قوس الصبر منزع، واحتملوا مالا يحتمل؟ فلما نفذ الصبر، وباد طوق المحتمل، هبوا هبة الحليم إذا غضب، ويا ما أشد غضب الحليم!
أنكون نحن في فرحة، وقومنا في الشام في ألم؟
وكدت أشعر بالحزن في قلبي، ثم قلت: لا، إن هذا هو الجيش الذي يجب أن يفرح به قومي. أن بطولة العراق وفتوة العراق صفحة من سفر المجد العربي، كما أن تضحية فلسطين، وجهاد دمشق، ونهضة مصر، صفحات منه أخرى. إن هذه كلها قوى متحدة، تتوجه وجهة واحدة!
ثم إن دمشق لا تخاف شيئاً ولا تخشى!
ولم تخاف؟ الرصاص؟ لقد فتح له أهلوها صدورهم! المدافع؟
لقد أعدو لها منازلهم! اليتم والثكل؟ لقد تعوده أبنائهم وأمهاتهم! إنهم يريدون أن يحيوا حقاً أو يموتوا. فهل يغلب شعب وطن نفسه على الموت؟
وكان جيش الفتوة لا يزال يسير، والأرض ترتج بالموسيقى والنشيد والهتاف والتصفيق والدعاء والبكاء، فعاد الأمل إلى نفسي قوياً، هذه (بيه مونت) الوحدة العربية، هذه (بروسيا) العرب،
هؤلاء عدة المستقبل، وهذا الجيش، وهذه الآمال!
فيا أهل دمشق، ويا أهل فلسطين، ويا أيها العرب، في قاص من الأرض ودان.
اطمئنوا فإن لكم جيشاً!
ولما جاوز جيش الفتوة شارع الرشيد واتجه إلى شارع غازي ماج البحر واضطرب، وتدفقت وراءه الجموع، وأسرعت إلى (الأعظمية) لأدرك الصلاة، ونفسي تضطرم بأجمل العواطف وأبهى الصور، ولكن جمالها لا يستتم في نفسي. إن في الموكب لنقصاً ظاهراً. أفما كان في الإمكان سدّه؟ أكانت تخر السموات على الرض، ويفسد نظام الكون لو قدم الموكب ساعة أو أخّر ساعة، ولم تضع الصلاة على هؤلاء الفتيان كلهم؟
هذا هو النقص، فيا ليت الوزارة لم تنسه. . . يا ليتها ساقت هؤلاء الجنود كلهم إلى المساجد ليقيموا فيها الصلاة، فإن أجدادنا ما غلبوا عدوهم إلا بالصلاة، والالتجاء إلى الله، وهو أن الدنيا وأهلها عليهم، وابتغائهم إحدى الحسنيين الظفر لإعلاء كلمة الله، أو الشهادة!