لم يكن أهل المدينة حين عقدوا هذه المعاهدة مع رسول الله يجهلون ما وراءها، فقد كانوا يعلمون أن وراءها حرب العرب جميعاً لأن العرب جميعاً على خلاف هذا الدين الجديد، وهم لا محالة معارضوه ومحاربوه، وقد ذكرهم بذلك العباس بن عبادة فلم يشفقوا من ذلك وأقدموا عليه وهم يعلمون ما يفعلون، ويعنون ما يقولون
علموا ذلك كله فلم يهلهم ولم يفزعهم، وأقدموا عليه طيبة به قلوبهم، راضية به نفوسهم. لقد عرض رسول الله (ص) نفسه قبل ذلك على القبائل، فأشفقوا منه ولم يقو أحد على حمل هذا العبء الثقيل.
لقد ذهب إلى ثقيف بالطائف وعرض عليهم الإسلام، فامتنعوا وقال له أحدهم: ما وجد الله أحداً يرسله غيرك. وقال آخر منهم: لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول، لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، ثم نجاه الله منهم. وكان ينتظر أيام الحج فيذهب إلى الحجاج من العرب في منازلهم ويعرض عليهم الإسلام فيأبون عليه، ذهب إلى كندة في منازلهم فامتنعوا عليه، وأتى كلباً فامتنعوا عليه، وأتى بني حنيفة فردوه أقبح رد.
لم يقدروا على حمل هذه الأمانة، وادخرها الله لهذا الحي من أهل المدينة فقد جاء نفر منهم إلى موسم الحج، فلقيهم رسول الله فقال لهم: من أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج. قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم. قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فآمنوا به وصدقوه وقالوا له: قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله على يديك، فلا رجل أعز منك. ثم رجعوا إلى المدينة ودعوا قومهم إلى الإسلام فأجاب منهم خلق كثير، ثم جاء منهم قوم إلى مكة وقابلوا رسول الله، وكانت المعاهدة التي ذكرناها.
إن هذه المعاهدة لتدل على ما للأنصار من جلد وقوة وشجاعة وبسالة وكرم وتضحية وإيثار
أباحوا أرضهم وديارهم وأرزاقهم لمن هاجر إليهم من المسلمين فقاسموهم ما عندهم، وآثروهم على أنفسهم