للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تلميذاً لاعبني أو مازحني، وهو لا يريد شراً، وإنما تغريه بذلك طبيعة الصبي، فقد كنت أكبح نفسي وأردها عن الأذى، وأعمل بقول الشاعر:

توقى الداء خير من تصدٍ ... لأيسره وإن قرب الطبيب

نعم تغيرت، بمعنى أن بعض الطباع التي كانت تظهر وتخفى فيما مضى، صارت أبرز وأقوى، فهي الآن السمة الغالبة والطابع الملحوظ.

هذه خلاصة ما حدثت به صديقي، وقد قلت له كلاماً آخر كثيراً، نسيته، فقد طال بيننا الحوار، وتركني وهو غير مقتنع بصوابي، فلم أحفل بذلك. وماذا يضرني ألا يقتنع؟ ولماذا أكلف نفسي تعب إقناعه؟ أنا الذي جربت مراراً كيف يخيب الأمل، ويذهب المسعى سدى؟

وأويت إلى مكتبي في الليل، بعد أن نام البيت، وأعفيت من ضجة الأطفال وأخرست لسان الراديو الصاخب. . . وعلى ذكر الراديو أقول أن بني مثلي، يأكلون على ضوضاء الراديو، ويراجعون دروسهم على ضجات الراديو، ولا يبدو عليهم أنهم يسمعون ما يصيح به، أو يبالونه، ومن شابه أباه فما ظلم، وإني لأرجو أن يظلوا مثلي، وألا يكترثوا لمن عسى أن يسبهم ويزعمهم (من فراش العار) - في حوار أدبي أو جدل سياسي - ما علينا.

سألت نفسي لما خلوت بها: (أهذا الذي صرت إليه اتزان أم بلادة؟ وصحة إدراك للقيمة الحقيقية للأشياء، أم فتور حتى عن محاولة الإدراك؟ وهل النار كامنة تحت هذا الرماد، أم هي خمدت وأنت تحسبها لا تحتاج إلى أكثر من التقليب؟ وهل يشي هذا بالقوة، أو يشي بالضعف؟ ومن اليأس هذا، أم من العلم والفهم الصحيح؟ وحال تدوم، أم عارض يزول؟

وطال تفكيري في جواب هذه المسائل، ولم أنته إلى شيء تسكن إليه النفس، فنهضت وأنا أقول: (ولماذا أعني نفسي بهذه المتعبات؟ وماذا أبالي على كل حال سواء أكان الأمر هكذا أم كذلك؟)

وأعجبتني (لا أبالي) هذه، فقد صارت عندي مخرجاً من كل ورطة، وباباً لتفريج كل أزمة في النفس. ومن كان يسعه أن يقول - ويكون على نحو ما يقول - (لا أبالي) فقد أوتي الراحة، ولا أقول السعادة فإنها خرافة.

إبراهيم عبد القادر المازني

<<  <  ج:
ص:  >  >>