إلا كوة واحدة مفتوحة، يقوم عليها الخباز والجندي إلى جانبه، يدعو واحداً بعد واحد من هؤلاء الناس الذي سدوا الشارع بكثرتهم لا يطلبون صدقة ولا إحساناً، وإنما يطلبون الخبز بالذهب فلا يجدونه، وما شحت السماء بالقطر وما أجدبت الأرض، ولكن (حلفاءنا. . .) الألمان. استأثروا بأطايب القمح وتركوا لنا شر الحنطة وأخبث الشعير ثم يا ليت أنا وجدناه.
نعم، لقد رأينا (نحن الأطفال) الحرب في شوارع دمشق حين أبصرنا الرجال يأكلون قشور البطيخ، وينبشون المزابل من الجوع، ثم رأيناها أوضح وأظهر، حين لم نعد نبصر في الشام رجالاً لأن الرجال أكلتهم الحرب. . . ثم رأيناها أشد ظهوراً بطلعتها الكالحة القبيحة حين تعودنا مرأى جثث النساء والأطفال الذين ماتوا من الجوع، نراها كل صباح ومساء، في غدونا إلى المدرسة ورواحنا منها. . .
في وسط هذه المذبحة المرعبة، وخلال رائحة البارود، وعزيف المدافع، وإعوال اليتامى والثاكلات. . . نشأت وعرفت الحياة فرأيت (البلد الحبيب) نصفه مقبرة للأموات، ونصفه مستشفى لمن ينتظر الموت.
وفي ذات صباح أفقنا على قصف يزلزل البلد، ويهز الدنيا، فسألنا: ما الخبر؟ قالوا: البشارة. هذا مستودع الذخائر يتفجر ويحترق، لقد أباده الألمان قبل هزيمتهم، لقد انتهت الحرب، وانتهى حكم الظالمين من أحفاد جنكيز خان!. . . وبعد ساعة واحدة يصل الشريف.
قلنا: من الشريف؟ قالوا: فيصل بن الحسين، هيا هبوا لاستقباله، فنهضنا ولكنا لم نبادر إلى استقباله، وإنما بادرنا إلى الجيش المنهزم نذبحه! فلما فرغنا منه مسحنا أيدينا من دمه وعدنا نستقبل الشريف. . .
نسيت دمشق جوعها وتعبها، ونسيت نصف رجالها الذين ماتوا على شاطئ غاليبولي وعلى ضفاف الترعة في سبيل مصالح الألمان، ونسيت أحزانها على من عانقتهم حبال المشانق في ساحة المرجة في دمشق والبرج في بيروت، وتكلفت دمشق الابتسام بل لقد ابتسمت حقيقة لما رأت وجه فيصل، وذهبت تبتغي أن تنثر على موكبه من أزهار الغوطة جنة الدنيا، فلم تجد في الغوطة زهرة واحدة، لقد صيرتها الحرب قاعاً صفصفاً، فنثرت على