المار، فإننا عند ما نقرأ سيرة الرجل وشعره نميل إلى الاعتقاد أن الحياة عنده كانت شعراً يُعاشُ وأن الشعر عنده كان حياة تكتب أو شعراً يكتب، وأنه ما كان يلجأ إلى الشعر الذي يكتب إلا إذا سمح له أو اضطره شعر الحياة الذي يُعاش. ولعل هذا هو سبب إقلاله وسبب موته وقد تخطى الأربعين قليلاً. وإننا نتساءل ماذا كان يكون نتاجه لو كان من المعمرين من غير أن يفني قدرته الحيوية بالحياة؛ ولكن من العبث التأسف، فلعل إفناءه قدرته الحيوية بالحياة كان من لوازم نشوته الشعرية، وإن قدرته في صناعة البيان كانت من مظاهر انتشائه بالحياة، وانتشاؤه بالحياة ميز شعر التكسب في قوله عن شعر التكسب في أقوال الشعراء الكثيرين، فشعر التكسب في قولهم ألفاظ ميتة مهما حاولوا إحياءها بصناعة البيان أو بالأناقة، وكانت قوة شعره مستمدة من انتشائه بالحياة، فلم تكن قوة كتلك القوة في شعر بعض الشبان المبتدئين الذين يفتعلون القوة فيخيل للقارئ أنهم يخنقون ألفاظهم ومعانيهم كي تصيح كما تصيح الدجاجة إذا حاول الطفل الصغير أن يخنقها، وكانت ألوان البيان في شعر أبي تمام طبيعية كألوان الحياة بالرغم من أغرابه، ولم تكن كتلك الألوان التي وضعها القرد على ما لونه المصور في نقشه ورسمه، وقد انتهز القرد فرصة انشغال سيده المصور بأمر من أمور الحياة. وقد أسف المغاربة أيضاً لموت محمد بن هاني الأندلسي في سن مبكرة وكانوا يأملون أن يعمر حتى يفاخروا به أكثر شعراء المشرق، وكان لابن هاني بعض مقدرة أبي تمام ولكنه لم تكن له - ثروّته الشعرية في نفسه وكان كل منهما مولعا بشعر الحياة الذي يعاش. وجرأة أبي تمام في التشبيه والاستعارة والمجاز هي ما يصح أن يسمى بالجرأة الموفقة إلا في القليل من شعره، وهي تشبه في المبارزة بالسيف نوعا من الهجوم إذا أجاده المبارز نثر سلاح خصمه وأصابه في الصميم وإذا أخطأ المبارز في هجومه سقط وسلاح خصمه في قلبه.