خرجت على الناس بلون جديد من التلحين الشرقي العربي البحت الذي تجري السلامة في أعطافه ولم يخضع لشهوة السرقة والمزج باللون الغربي، فعرف كيف يملك القلوب بسحره الآسر، وأثره الساحر، وعرف كيف يلجم هؤلاء الذين يرمون الموسيقى العربية بالعقم والضعف وانعدام التصوير والتلوين وعدم إبراز العواطف الإنسانية في إهابها الحق الذي يترجمها الترجمة الصادقة
قلنا إنها تغني وبروحها، ولهذا سميت (مطربة العواطف)؛ وليس معنى هذا أنها تعتمد كغيرها على الآهات والأنات واللون المسترخي البغيض الذي يشيع تخنثاً وشهوة، والذي لا يعتمد إلا على استغلال أحط الغرائز في جمهرة السامعين
ولو أتيح للقارئ أن يسمعها مرة لسمع شعراً قوي الأسلوب سامي الخيال، رفيع الغاية، ولسمع تلحيناً شرقياً عربياً يأخذ بمجامع القلوب. ولعل (ملك) أول من غنى شعراء حماسياً يلهب الجوانح ويدفع دفعاً إلى التضحية. فقد أخرجت للناس سنة ١٩٢٨ قطعتها الخالدة:
بني مصر صونوا حياة الوطن ... فقد حاربتها عوادي الفتن
تعتد بنفسها اعتداداً يبلغ حد الكبرياء، وتسمح للغضب أن يستحوذ عليها ليجعل منها (عصيبة لا تطاق): تمتاز بثروة فنية عظيمة، فهي تحفظ جميع قصائد المرحوم الشيخ أبي العلاء، وجميع أدوار المرحوم الشيخ سيد درويش، وعدداً كبيراً من الموشحات القديمة الغنية بالنغمات المختلفة و (بالضروب) المتباينة، وبمجموعة عظيمة من أدوار: الحمولي، ومحمد عثمان، والمسلوب الخ
أكبر الظن أن أغلب القراء لا يعرفون أن (ملك) حاصلة على (البكلوريا) وأنها تقدمت عام ١٩٣١ لتجتاز امتحان (الليسانس) ولولا زواجها وقتئذ من أحد قضاة الدرجة الأولى لكانت الآن (الأستاذة ملك) ولكنها فضلت حياة البيت، وحياة الزوجية، وكانت المثل الأعلى للزوجة الرحيمة الوفية، وكان بيتها (جنة) ولكن (آدم) لا يحب أن يسكن الجنان. . . فخرج منها بعد خمس سنوات مضت كالسراب الخاطف، ورجعت هي إلى فنها لتعول نفسها بصوتها، بصوتها، بصوتها، وأكررها ألف مرة حتى يعلم الناس جميعاً كيف ينحنون أمام قدس الشرف الرفيع الذي لا يعجب بعض الناس في هذا الزمن فيحاربونه بأحط الوسائل،