فيها رجل له بين أهله مكانة، فمد الأهل الأبسطة والمقاعد، وأضاءوا الأنوار وازدحم المكان بالمعزين
تجولت النملة المتأملة الحديثة العهد بالحياة على هذه الأبسطة المتسعة تائهة لا تهتدي إلى المكمن الذي خرجت منه، ترى أنواراً تعلوها، وأبسطة ممتدة أمامها، وأناس يرحون ويغدون، وتسمع فقيهاً يُرَتَّلُ الآيات بصوت رخيم، وترى نادلا يقدم قهوة للقادمين، وكلما مر الوقت انطبعت هذه الصور في ذهن النملة الحائرة
لنفرض بعد ذلك أنه لسوء حظ النملة التعسة انطفأت الحياة فيها بأن داستها أقدام المعزَّين، فإنه يغلب على الظن أن الدنيا عندها هي فضاء تضيئه أنوار، ويحيط به سرادق، وتغطي أرضه أبسطة، وفقيه يرتل الآيات، ونادل يتحرك جيئة وذهاباً إن وجود القاطرة البخارية وحديقة الحيوان ومعرض نيويورك والاستعداد للحرب، أمر غير معروف لديها، فكل هذه أشياء خارجة عن حدود مداركها
قد تكون ملايين السنين التي يقدر الجيولوجيون والطبيعيون أنها الفترة التي مرت على الإنسان منذ وجوده بالنسبة للخليقة كهذه اللحظات بالنسبة للنملة الحائرة، وقد لا يمثل ميراثنا العلمي الذي لا تتسع له دور كتب العالم قاطبة الوجود في شيء، وقد يشبه معارف النملة عن الكون الذي لم تر المسكينة منه إلا ليلة عزاء محصور كل حوادثها بين قطع محدودة من الأقمشة، ويكون الكون ذو الحيز المتقوس وفق ريمان وأينشتاين، المتمدد وفق دي ستير واديجتون، المحدود وفق سان ولميتر، ذرة واحدة، لا نقول بين ملايين ذرات مماثلة لها، بل بين ملايين أكوان لا يمثل هو فيها شبيهاً، ويكون كوننا مثالا خاطئا لحقيقة الوجود، بل قد يكون كأحد جسيمات الدخان لمصنع لا نعلم عنه سوى إحدى ذرات دخانه المتصاعد، ونكون معشر الناس ككائن نفترضه داخل هذا الجسيم من الدخان، لا يرى إلا ما يكوَّن الجسم الذي هو بداخله. فالقطن الذي يدخل هذا المصنع والوادي الذي زرع فيه هذا القطن، والنهر الذي رواه، والمهندس الذي صمم القناطر على هذا النهر؛ كل هذه أمور غير معروفة بالمرة لهذا الكائن الذي افترضناه داخل الجسيم
كم يغلب على ظني أننا لا نختلف كثيراً عن هذه النملة الحائرة أو عن هذا الكائن السجين!
على أن شيئاً جديداً. اكتشفه العلماء يقع داخل هذا الكون المحدود وينتقل بين أرجاء هذا