لأبذلنَّ كل ما في الوله من عناية في اختيارِ العنبر لأمدَّه أظلالاً فأداعب إهابك حين أرسمه غضّاً ناعماً كأن عليه زغبَ الثمرةِ الندية فتبدين فتَّانة القوام باسطةً ذراعيك بمعصميهما الضامرين
وعندما أستنفذ ما على لوحة الألوان فلا أجد ما أرسم به لين طفولتك، وهي كأنها تأود القصب النديّ في جزيرتك؛ ويمتنع عليّ رسم ما في صفاء فطرتك وعطفك وذكائك من غوامض الفتنة، لن يسعني وقد خانني الفن إلا أن أعتصر على الرافدة آخر ما احتبس في قلبي اليائس من قطرات شوقه وإلهامه
وإذا ما أتممت هذه الصورة المنذورة أسارع إلى رفعها على هيكل من هذه الهياكل الصغيرة المشرفة على غابات القصب المزهرة وعلى مراوح الموز الوسيعة؛ عندئذ أجد مكافأتي في تعبُّدي لعذرائي الزنجية، فأسجد أمامها صامتاً خاشعاً والغسق يمد أظلاله على الأشجار الباسقة التي لا أسم لها كأن الغسق ليلٌ ثان ينتشر على ظلمات الغاب في بلاد الهجير حين تهتاج الصراصرُ مرسلةً أزيزها في الليل فتجاوبها الحُباحبُ بأشعةٍ لا عِدادَ لها كأنها قطراتُ ندىً تلتمع في ليلة مقمرة
وهذه قصيدة أخرى بعنوان (مولد) للشاعر الكبير جيوفاني باسكوالي استوقفني ما فيها من عاطفة فياضة وروعة فآثرت نقلها إلى العربية أيضاً
مولد
ثلاثون عاماً تتالت منذ ولدتني يا أماه، منذ آلمتك أولى شهقاتي الضعيفة بأكثر من أوجاعك الشديدة الفائرة
وغذيتني من ثدييك المتفجرين حناناً وأنت صبور تساورك المخاوف والأشجان، حتى إذا تكامل لحمي من لحمك ودمي من دمك فاستقرَّ قلبك بأكمله في قلبي، جاء اليوم الذي تواريت فيه منذ عشرين عاماً
وهأنذا أحاول عبثاً أن أجسِّم عينيك وسيمائك لأشاهدك بخيالي. لقد أذبل الزمان ناضر تذكاري فلم أعد أعرفك يا أماه!
أما أنت فلا تزالين حيث يستقر الأموات في مرابع الصقيع تستوقفين أحلامَك لتداعب أناملك غدائر طفلك الصغير